مصريات يتفجّرن غضبًا

شريف الشافعي
الخميس   2021/03/11
وئام علي
على طريقتهنّ الخاصة، احتفلت تشكيليات مصريات بيوم المرأة العالمي، بإقامتهنّ معرضًا جماعيًّا على مدار مارس/آذار 2021، في غاليري "خان المغربي" بحي الزمالك في القاهرة، وهو المعرض الذي أطلق صرخة الصوت الأنثوي من قمقمها، ودفع بجسارة إلى فوهة المشهد حممًا بركانية نسويّة، ظن البعض أنها من الممكن أن تخمد أو تهدأ.
 
لم تتفق الفنانات المشاركات في المعرض مسبقًا على ثيمة معيّنة، لكنهنّ التقين لا إراديًّا في لوحاتهنّ وأعمالهنّ النحتية على معاني التوقّد، والتفجّر، والغضب، والرغبة في التمرد، والثورة على الواقع الراهن، وإحداث التغيير الجمالي والاجتماعي، ما يعكس وعيًا نسويًّا جديدًا وعميقًا بمستجدات اللحظة الحالية في مصر والعالم المحيط.

هذا التوافق المركزي غير المتعمد، كاد يمثّل توجّهًا للمعرض، ونقطة تلاقٍ لمبدعات ينتمين إلى أجيال مختلفة، ويحملن شخصيات فنية متمايزة، ويعكسن تيارات واتجاهات متفارقة، حيث إن "ماذا يعبّرن عنه" جاء في صدارة مطالعات المتلقي، قبل "كيف يعبّرن عنه"، وهكذا تخلقت الثيمة أو الفكرة العامة من تلقاء نفسها، وذلك أفضل من العناوين التعسفية الجامعة، التي قد تندرج تحت مظلتها معارض أخرى، تخنق ديموقراطية الفن، وتقيّد انبثاقاته العفوية.

مريم الكسباني، ميرفت الشاذلي، سماء يحيى، علياء هاني، آية عامر، إنجي عبد الحق، فاطمة لطفي، هالة الرفاعي، أمنية محمد، ميسون الزوربا، مروة زكي، نادين خالد، نهلة درويش، نهى طارق، وئام علي، أسماء لافتة في الحركة التشكيلية المصرية، اتخذن المعرض فرصة لتحويل التظاهرة النسوية العالمية إلى صوت محلّي مشترك، يتحدث بلسان قضايا المرأة وأزماتها وإحباطاتها، ومعاناتها من تبعات التقييد والتمييز والذكورية، وتعرضها للقهر والتنمر والتحرش وغيرها من الممارسات التعسفية.

وبالرغم من تلك الأوضاع السيئة والتصورات السائدة حولها، فإن أعمال المعرض لم تأتِ سوداوية انهزامية، ولا داعية إلى الإحباط والاستسلام والتقوقع حول الذات المهمّشة المغتربة، وإنما جاءت أغلبية الأعمال الفنية المشاركة مشحونة بالتوهج الإيجابي، وبروح المقاومة والتحدّي والبطولية، إيمانًا بقدرات المرأة العملاقة، وطاقتها الخلاقة، وشخصيتها الاستثنائية، القاهرة للظُلم والظلام.

في هذا المضمار، سيطرت على اللوحات الألوان الصاخبة كالأحمر والأصفر والبرتقالي والأخضر والأزرق، المعبّرة عن الاشتعال والقتالية والحيوية والعُمق، وتحولت ضربات الفرشاة إلى دفقات نابضة، وانصهرت خلايا المرأة المتوالدة وكرات دمائها الحمراء والبيضاء مع مفردات الطبيعة وعناصرها المتجددة. 

في لوحاتها، تحسست ميرفت الشاذلي رقصات النار النسوية، المبهجة والخطرة في آن، وسط أعمدة الدخان وألسنة اللهب التي لا توقف المرأة عن جنونها، ولا تحد طموحها، وجعلت نهلة درويش المرأة شمسًا أسطورية ضخمة ذات أجنحة، فصارت هي ذاتها المارد المنتظر، بدلًا من أن ترتقب استحضاره من الفانوس السحري؛ ليغيّر الأوضاع، ويقلب الأمور الكائنة رأسًا على عقب.

ومضت كل من هالة الرفاعي وإنجي عبد الحق إلى المستقبل ببراءة الطفولة وامتدادات الأنثى الدينامية خارج الظرف الثابت المتحجر، فهناك غدٌ فيه فاكهة مأمولة، وبالإمكان البدء في زراعتها، رغم سوء الطقس المهيمن. وكثفت فاطمة لطفي هذه الفيوضات التفاؤلية، لترسم ربيعها الخاص، ممثلًا في شجرة الألوان وقوس قزح والفتاة الراقصة بفستانها المشعّ وضاءة ورحيقًا وعطرًا.

وفي الأعمال المركّبة، التي تُستخدم فيها وسائط متنوعة، وتحمل زخمًا بصريًّا ومعرفيًّا، واستثمارًا لعناصر البيئة المحلية والموروث الشعبي والجمالي، جاءت الرؤية الفنية ثرية، كما في تجارب سماء يحيى، التي تجذرت في التربة مستكشفة تمثلات المرأة كحالة دائمة من الخصوبة والأمومة والتفتح والازدهار والنماء. 

لم تفقد سماء يحيى إيمانها بما هو نسوي، تحت أية وضعية طارئة، وأوضحت الفنانة لـ"المدن" اعتقادها بأن المرأة ثورة، وحياة، وواهبة للحياة، مشيرة إلى أنه بالرغم من مرور أكثر من قرن على مطالبة النساء بحقوقهن، فإن التقارير والمعاينات الملموسة تؤكد أن أمام النساء أكثر من مئة عام أخرى ليحصلن على المساواة، وهنا يأتي دور الفنانات للثورة على هذه الحقيقة، ومحاولة الكشف عن الجانب الإنساني للفن، بعيدًا عن صانعه، ذكرًا كان أو أنثى، من خلال استعمال وسائط قد يرى البعض أنها لا تناسب طبيعة المرأة، لحاجتها إلى مجهود عضلي، كالنحت المباشر على خامات مثل البازلت والغرانيت، أو استخدام تقنية التجميع وما يستلزمه ذلك من مجهود فكري وبدني. 

قدّمت سماء يحيى ثلاثة أعمال، أولها يعبر عن المرأة الصانعة، التي كانت تدير المنزل وتقوم بكل الأدوار فيه، كإعداد الطعام والشراب وحياكة الملابس وتربية الطيور، لتصنع اكتفاء ذاتيًّا، والثاني هو المرأة العاملة خارج المنزل، التي تبني وتعمر حاملة قصعة البناء على رأسها، شامخة بقلبها الأخضر، الخصب، المانح، المعطاء. 
وجاء عملها الثالث عن المرأة الصلبة، المدافعة عن حقوقها، ذات الوجه البرونزي؛ الذى لا يخلو من نظرة الحنان، بالرغم من حملها العصا لتدافع، لا لكي تهاجم. وهذه الأوجه الثلاثة للمرأة؛ المدبرة والبناءة والحامية، هي القواعد التي تضع أساس أي مجتمع متحضر، وهذا ما أرادت الفنانة نقله إلى المتلقي بسلاسة.  

وفي الأعمال النحتية، خصوصًا ذات الخامات القاسية، الصعبة، تجلّت انطلاقات المرأة في فضاء التمرد والانفلات، لتجسيد تلك الرغبة الملحّة في الخلاص من الأسر وتحطيم القيود ونيل الحقوق المسلوبة، فقدّمت ميسون الزوربا ووئام علي المجسّمات القوية الصلبة، المعبرة عن شموح المرأة وانتصابها في الفضاء متحدية الانكسار، وصوّرت مريم الكسباني النملة المقاتلة في تكوينات تبرز دأب المرأة ورشاقتها وإصرارها على تجاوز المحن والمطبّات، وتعاطت مروة زكي مع الخامات الصلبة برقة وحساسية وقدرة على الاستشفاف الداخلي لتفجير روحانيات الشكل.

ويعد انغماس المرأة في عالم النحت بحد ذاته نوعًا من التحدي، فهو فن صعب يتطلب الكثير من القوة البدنية لمواجهة الخامات، والمعدات الثقيلة لتقطيع المواد وجلوها، وامتلاك ورش مجهزة، وما نحو ذلك من تعقيدات، أبت المرأة المبدعة إلا أن تواجهها، وتحاول إزالتها، وتلك إحدى الرسائل الإضافية في المعرض النسوي الجريء المقتحم.