هل يحتاج المسيحيّون إلى حماية؟

أسعد قطّان
الأحد   2021/02/28
حضور بكركي والبطرك الراعي(عباس سلمان)
لا تنفصل مقولة «حماية المسيحيّين» التي تقضّ مضاجعنا اليوم عن تعرّجات المشهد السياسيّ. هناك فريق لبنانيّ، مثلاُ، ينظر بانقباض إلى حاضره المأزوم ويرى أنّه بات على طريق التحوّل إلى هباء منثور. فقاعدته الشعبيّة تنحسر وتتصدّع، والوعود التي أغدقها طوال سنين آخذة في التحوّل إلى أضغاث أحلام، فيما كشفت الانتفاضات ما هو عليه من تبعيّة في السياسة وتضعضع في الأخلاق. واللافت أنّ بعضهم غير قادر على مساءلة ماضيه والتعامل نقديّاً مع الأخطاء التي ارتكبها. هذا لا يعني طبعاً أنّ الآخرين منزّهون عن الخطأ. ولكنّ لسان حاله كان دوماً أنّه أفضل منهم، ما يجعله أكثر من سواه في عين العاصفة، والعاصفة هي النقد الذي لا يرحم. هو يبدو اليوم فاقداً صوابه: يعلن الشيء وعكسه في الوقت ذاته، ويتأرجح بين الأضداد في أداء لا يفتقر إلى الفطنة السياسيّة فحسب، بل إلى الحصافة الإنسانيّة أيضاً. في سياق هذه الصورة السوداويّة التي لا يتمنّاها المرء لعدوّه، يبدو الاستنجاد بمقولة «حماية المسيحيّين» ضرباً من الخطاب الشعبويّ الأخرق. ولكنّه خطاب يتوسّل إثارة المخاوف الدفينة في اللاوعي الجماعيّ طمعاً في «تقريشها» وتحويلها إلى رصيد سياسيّ يسمح  بإعادة إنتاج الذات السياسيّة المفلسة.


هل المسيحيّون خائفون؟ وهل يحتاجون تالياً إلى حماية؟ لقد عاش المسيحيّون طوال قرون في حمى منظومة أهل الذمّة. يكمن التباس هذه المنظومة في أنّها همّشت المسيحيّين من جهة، ولكنّها خلقت لهم من جهة أخرى بإزاء جيرانهم المسلمين أطراً مجتمعيّةً مرسومةً بدقّة كثيراً ما ركنوا إليها واستقوا منها شيئاً من الأمان. ولقد تكرّست هذه الأطر في نظام الملل العثمانيّ الذي أسّس لاستمداد هويّة الإنسان الفرد من انتسابه إلى جماعة سوسيولوجيّة يضطلع الانتماء الدينيّ بدور كبير في تحديد ماهيّتها. نظام الملل هذا هو الذي أتاح للقوى العظمى المتصارعة في ما بينها أن تفرض «حمايتها» لهذه الجماعة الدينيّة أو تلك. والحقّ أنّ هذه الجماعات كانت تترجّح بين وعي ذاتها كدوائر مغلقة على ذاتها وانفتاحها على الآخرين في خضمّ ما تستوجبه الحياة اليوميّة من تقارب وتبادل وتداخل.

لقد ورث المسيحيّون في لاوعيهم الجماعيّ بعضاً من ذميّتهم القديمة ونزعتهم إلى أن يكونوا «محميّين»، وذلك رغم أنّ مشروع الحداثة العربيّة، الذي كانوا في طليعة صانعيه، أتاح لهم أن يلجوا مع سواهم رحاب المواطنة التي تستند منظومة الحقوق فيها إلى فكرة الكائن الفرد بصرف النظر عن انتمائه الدينيّ أو الإثنيّ أو العرقيّ، لا إلى امتيازات الجماعة التي ينتمي إليها. ولعلّ بعضاً من المشكلة يكمن في أنّ هذا المشروع تمّ إجهاضه على يد أنظمة توتاليتاريّة كثيراً ما اختبأت خلف الأفكار القوميّة، ما جعل المواطنة في الممارسة مواطنةً مجتزأةً يهدّدها القمع من جهة، ويهدّدها من جهة أخرى خطر السقوط مجدّداً في إيديولوجيا الجماعة المهمّشة التي تحتاج إلى حماية. والملاحظ أنّنا شهدنا في السنوات الأخيرة استيقاظاً لنوع من الذمّيّة الجديدة لدى عدد من المسيحيّين يغذّيه الخوف من تصاعد التيّارات الإسلامويّة العنفيّة. ولقد وجدت بعض الدول في هذه السيكولوجيا المتقلقلة تربةً صالحةً لإعادة إنتاج سيطرتها السياسيّة ناسبةً إلى ذاتها دور حماية المسيحيّين. 
ولكنّ الأكيد أنّ الخوف اليوم ليس حكراً على المسيحيّين. فثمّة قوم في الجماعات الدينيّة الأخرى خائفون أيضاً على ذواتهم وعلى مستقبلهم، وغالباً ما يصبحون ضحيّةً لأسوأ نوع من أنواع الخوف، هذا الذي يفتك ببعض المسيحيّين، أعني به الخوف من الآخر. والذي يخاف، يريد أن يتّكئ على مّن يُشعره بالحماية حتّى ولو كان هذا الحامي تهويماً أو سراباً. غنيّ عن القول أنّ كلّ هذا لا يتمّ تخطّيه إلاّ بإحياء مشروع المواطنة الذي لا بديل عنه. فشل هذا المشروع في تاريخ هذه المنطقة من العالم لأسباب نستطيع رصدها وتحليلها لا يعني أنّه بات اليوم غير صالح. فمَن يؤسّس الحاضر والمستقبل بالاستناد إلى الخبرات التاريخيّة الفاشلة فقط يقع في مغالطتين: مغالطة التضحية بالحاضر في مصلحة التاريخ علماً بأنّ البشر لم يكونوا يوماً عبيد تاريخهم (هذا أيضاً درس تاريخيّ)، ومغالطة الاعتبار أنّ الكيانات المجتمعيّة جواهر ثابتة لا تتغيّر على طريقة «فالج لا تعالج». هل من باب المصادفة أنّ هذا الشعار هو في نهاية المطاف أبرز حجّة رُفعت في وجه الانتفاضات الربيعيّة العربيّة منذ العام2011؟ ولكنّ لهذا الشعار حكاية أخرى تستحقّ أن تروى في يوم من الأيّام.

هل المسيحيّون في حاجة إلى حماية؟ نعم!! هم في حاجة إلى حماية المشروع الوطنيّ الذي يتيح لهم أن يتحوّلوا إلى مواطنين من جديد بعيداً من منطق الجماعة الخائفة والمضطهدة أو منطق الأقلّيّة التي تتحالف مع أقلّيّات أخرى ضدّ أكثريّة لا تقلّ عنها شعوراً بالخوف وبالحاجة إلى الحماية. غريب أمر هذا الخوف الذي يهزم الجميع سواء كانوا أكثريّةً أو أقلّيّة. ولكنّ الآخرين ليسوا بأقلّ حاجة لهذا المشروع الوطنيّ القائم على المواطنة. إرفعوا ألحاظكم وانظروا تجدوا أنّ كلّ المشاريع الأخرى فشلت وهي في طريقها إلى الانهيار، من المشروع الاستبداديّ للطاغية الذكيّ إلى مشروع البنية الدولتيّة التي تختبئ خلف العمارة الدينيّة المعصومة. في حمى مشروع المواطنة لا مكان لحقوق المسيحيّين ولا مكان لأوهام استقوائهم بمن يأتي من الخارج كي يحميهم. فالحقوق هي حقوق الجميع من دون استثناء، والحماية تؤمّنها الدولة التي يساهم الجميع في صناعتها. هذا مشروع يستحقّ أن يُعمل له. وأمام هذا المشروع تتحوّل مقولات «حماية المسيحيّين» إلى حبيبات رمل تنسرب من راحة الكفّ قبل أن تتناثر وتتلاشى في الفضاء.