فرنسا ضد نفسها

شادي لويس
السبت   2021/02/27
ميشيل فوكو
"أعتقد بأنه من المهم النظر إلى فرنسا على أنها دولة الثورات، وأرض الرجعية العظيمة على السواء. غالباً ما أتناقش مع أصدقائي الأجانب حول هذا، لأنهم ما زالوا يحملون تقديراً لأسطورة فرنسا الرائعة التي تقف دائماً على حافة الاختراعات الثورية...المشكلة أن هناك جانباً آخر من القصة. هناك تاريخان/قصتان لفرنسا وهما متضافرتان".
(آلان باديو، في مديح الحب).

في كانون الأول/ديسمبر الماضي، ألقت، ليز تروس، وزيرة الدولة البريطانية لشؤون المرأة والمساواة خطاباً أثار الكثير من الجدل بشأن تدريس موضوع التمييز في المدارس. حذفت الحكومة، في اليوم التالي، نص الخطاب من موقعها الرسمي. فتروس ادعت أنه، ومع التركيز على دراسة العنصرية والتمييز الجنسي في مدرستها، لم يكن هناك ما يكفي من الوقت لتعلم القراءة والكتابة. المثير للسخرية، أن الوزيرة المنتمية لحزب المحافظين، كانت تتحدث عن مدرستها في عقد الثمانينات، في ظل حكومة المحافظين، وحكومة ثاتشر على وجه التحديد والمعروفة بلا شك بسياستها اليمينية المتصلبة. ألقت تروس باللوم على "فلسفة ما بعد الحداثة - التي كان ميشيل فوكو احد مبتكريها- والتي وضعت هياكل السلطة المجتمعية والتسميات قبل الأفراد ومساعيهم"، ولم تكن تلك الإشارة الأولى من نوعها، فاليمين السياسي والأكاديمي في العالم الناطق بالإنكليزية، في بريطانيا أو أميركا الشمالية، لطالما اتهم "ما بعد الحداثة" و"ما بعد البنيوية" بإفساد المجتمعات والبحث الجامعي، عبر الدفع بسياسات الهوية والصوابية السياسية. وغالباً ما يأتي ذلك الاتهام مقترناً بوصم تلك المدارس الفكرية بالفرنسية، كدلالة على أجنبيتها، وكذا على طبيعتها المبالغ فيها، كما يحلو لحس الفكاهة الأنكلوسكسوني تصوير كل ما يأتي من فرنسا.

لكن اليمين الفرنسي ليس أقل عداء تجاه فرنسا هذه، فرنسا الأخرى، بأكاديميتها وميراثها الملهم من النظريات والأفكار النقدية والراديكالية. ومع اقتراب الانتخابات الرئاسية الفرنسية في 2022، واستطلاعات الرأي التي تكشف جماهيرية مقلقة لماري لوبان، والتي بات من المرجح أن تصل مرة أخرى إلى الجولة الثانية من الانتخابات في مواجهة ماكرون، فإن الفوارق بين يمين الوسط واليمين تبدو غير موجودة. بل ويزايد وزير الداخلية الفرنسي، جيرالد دارمان، على لوبان نفسها، مرشحة اليمين المتطرف، ويتهمها بـ"الليونة تجاه" الإسلام، خلال نقاش تلفزيوني. يتحد وسط اليمين وأقصى اليمين الفرنسي للهجوم على فرنسا الأخرى.

"اليسار الإسلامي ينخر مجتمعنا، والجامعات ليست محصنة"، تشن وزيرة التعليم العالي الفرنسية، فريديريك فيدال، هجوماً ضمنيا ًعلى الحريات الأكاديمية، أو ما أطلق عليه منتقدوها إقامة "شرطة للأفكار". إذ تطرح الوزيرة الفرنسية تهمة فضفاضة، وتأمر بفتح تحقيق في مسألة الباحثين "الذين ينظرون إلى كل شيء من منظور السعي لإثارة التصدّع والانقسام"، والتي تشمل بحسبها أولئك الذين يركّزون على قضايا الاستعمار والعِرق.

في مطلع الألفية، صك عالم الاجتماع الفرنسي، بيار أندريه تاغييف، مصطلح "اليسار الإسلامي" لغرض آخر تماماً، وهو وصف التشابهات بين الإسلام الجهادي وجماعات أقصى اليسار الراديكالية، لكن الوزير الفرنسية تستخدمه بالمعنى نفسه الذي يروّجه اليمين المتطرف. فدراسات ما بعد الاستعمار، التي تستهدفها فيدال بالاسم، ومعها مجالات الدراسات الثقافية المتعلقة بالعِرق أو الجنس أو الهوية (المتأثرة جميعاً بفلسفات ما بعد البنيوية الفرنسية)، لا تعد خطراً فقط بسبب تفتيتها للمجتمع وتبرير الإرهاب. بل وتبدو أيضاً، وللمفارقة الساخرة، أجنبية ومستوردة، لكن بصورة عكسية هذه المرة، أي من العالم الانكلوسكسوني، وبالأخص من جامعات الولايات المتحدة.

يقبل المركز الوطني للبحوث العلمية، الذي كلّفته فيدال بإعداد التحقيق، بإجرائه، لكنه يدين أيضاً "محاولات نزع الشرعية عن حقول من البحث مثل دراسات ما بعد الاستعمار"، وبعده يصدر "مؤتمر رؤساء الجامعات" بياناً يعبّر فيه عن "الصدمة إزاء نقاش عقيم آخر حول قضية اليسار الإسلامي في الجامعات".

لكن ما قد يُستهان به اليوم على أنه مجرد سلسلة من المناورات الانتخابية التفاهة، يمكن أن يكون دلالة خطيرة أيضاً، فانحراف الساحة السياسية الفرنسية إلى أقصى اليمين، يوماً بعد آخر، يذكرنا بأن فرنسا يمكن لها أن تكون بلد الرجعية العظيمة، كما أنها كانت بلد الثورات الرائعة، وأن الديموقراطية هناك، وفي كل مكان آخر، يمكن أن تكون شديدة الهشاشة، وتحتاج دفاعاً دائماً عنها.