هذا ليس تسييساً لجريمة المرفأ

رشا الأطرش
السبت   2021/02/20
أهالي ضحايا انفجار المرفأ (المدن)
لعل المحقق العدلي في انفجار مرفأ بيروت، القاضي فادي صوان، والذي قررت محكمة التمييز الجزائية كفّ يده عن القضية، لم يكن القاضي النموذجي لهذا الملف. والحقّ أن القضاء اللبناني برمته، منذ العام 2005، بل ومنذ ما قبل ذلك بعقود، لم يقدم أداء نموذجياً في أي من القضايا الكبرى من حجم قضية المرفأ، سواء كانت انفجارات أو اغتيالات. ارتكب صوان أخطاء كثيرة. تراجع حيناً، وخضع لضغوط، وماطل أحياناً. لكن، حتى الحد الأدنى من الشغل، شغل صوان، خطير، لا هامش ولو ضيقاً له، وتحديداً الآن في جريمة المرفأ، والأرجح مستقبلاً، في كل من القضايا القاتلة التي نُكب بها اللبنانيون خلال العامين الماضيين على الأقل، من فساد وإهمال وانهيار مالي واجتماعي وأمني وسياسي شامل.

اليوم، ثمة قاض جديد، هو طارق بيطار. سيرته مشكورة، وسيراقب اللبنانيون أداءه، بل سيترقبون، وهم الذين يتخوفون، بعد ستة أشهر على "بيروتشيما"، من عودة المسار القضائي إلى المربع الأول، وما يمكن أن يعنيه ذلك من تسويف وتشتيت. وإلى أن يسلك القاضي في مهمته الجديدة، وربما بالضبط لأننا إزاء "قيادي" جديد لهذا الملف يفترض أن يكمله من حيث توقف/أوقف صوان، يبدو ضرورياً التوقف عن المدماكَين الأساسيين اللذين تم الارتكاز اليهما لتنحية صوان، إن لم يكن بالتفاصيل والدهاليز القانونية التي يُعنى بها أهل الاختصاص، فبالمعنى والدلالات والمفاهيم. ذلك أن هذين المدماكَين سيحددان، إلى حد كبير، الإطار الذي سيتحرك فيه القاضي الجديد، أياً كانت مواصفاته ومناقبيته، فكيف إن كان منوّهاً به في وسطه المهني؟

الحصانات الساقطة
أولاً، أُخذ على صوان قوله إن "لن يتوقف أمام حصانة"، وبما أن الحصانات موجودة بحُكم القانون، فهذا يعني أنه لا يحترم القانون. يعتبر المحامي أيمن رعد، في حديث إلى "المدن"، أن هذه الحجّة واهية، إذ لا حصانة وزارية هنا (علي حسن خليل أو غازي زعيتر أو غيرهما من الوزراء في موقع المسؤولية عن تخزين نيترات الأمونيوم في المرفأ بهذه الكمية والطريقة وطوال سنوات)، "لأن الموضوع يتخطى مجرد الإهمال في الموجبات الوزارية، وتالياً يتخطى الحصانات، كونه يقع في خانة الإهمال الجُرمي، أي المؤدي إلى القتل".

وإذا سلّمنا جدلاً بأن الحصانة ما تزال قائمة، فهي تحول دون الادعاء على المتمتعين بها، بحسب رعد. فمثلاً المحامي لا يُدَّعى عليه إلا بإذن من النقابة، "لكن بالنسبة إلى مَن كانوا وزراء معنيين بموضوع تخزين نيترات الأمونيوم في مرفأ بيروت، فقد أرسل صوان كتاباً إلى مجلس النواب مفاده أنه فليقم مجلس النواب بواجباته ويدعي، وإذا لم يفعل، فسأقوم أنا بذلك". ويتابع رعد: "ثمة رأي قانوني يقول بأنه، حتى لو افترضنا جدلاً أن الحصانة موجودة، فالقانون يقول: لِمجلس النواب أن يدعي..، بمعنى أن هذا التحرك ليس محصوراً في مجلس النواب، بل يمكن لمجلس النواب، من بين جهات أخرى، أن يقوم به".

القاضي متضرر.. ومَن لم يتضرر؟!
أما المدماك الثاني، والأكثر سوريالية وإثارة للعجب، فبُني على أساس أن القاضي صوان متضرر شخصياً من الحدث، إذ أصاب الانفجار بيته بأضرار (طفيفة)، وبالتالي، لا يمكنه أن يكون حيادياً، كما يفترض به أن يكون. "هذا صحيح من حيث المبدأ"، يشرح رعد، "فلا يمكن للقاضي مثلاً أن يكون والد الضحية في جريمة قتل، أو من أقربائها أو صديقاً لها أو حتى صديقها في مواقع التواصل الاجتماعي إذا ثبت أن بينهما تواصلاً كثيفاً". وخلافاً للمعتقد السائد بأن القاضي "منحاز" حُكماً للمظلوم أو المظلومية عموماً، وبذلك يكون عادلاً، فبالقانون الأمر ليس كذلك، بحسب رعد: "لا يمكن للقاضي أن ينحاز حتى إلى الحق العام أو إلى الضحايا، فهذه سمة النيابة العامة والمدّعي الشخصي. الدور الأساس للمحقق العدلي أن يتأكد من صحة وسلامة الأدلة التي ترفقها النيابة العامة أو المدعين الشخصيين، أي التثبت من أنها غير مفبركة، وغير مأخوذة تحت التهديد أو التعذيب، الخ...، ثم يوصّف الجرم ويدعي على المتهم بقرار ظني ويحيله إلى المجلس العدلي".

لكن، في موضوع المرفأ، مَن منّا ليس متضرراً؟ مادياً أو جسدياً أو معنوياً؟ انفجار بيروت الذي سُمع دويّه في قبرص والنبطية! مَن منّا لم يتأثر أحد أهله أو أصدقائه؟ إذا كان مبنى قصر العدل نفسه قد تضرر! هل يكفي أن يكون القاضي متضرراً، بشكل ما، ليُرمى بحجة عدم الحياد؟

"بل يجب أن يكون مستوى الضرر ملحوظاً، والأهم أنهم يجب أن يثبُت أن الضرر الواقع عليه أثّر أو يؤثّر فعلاً في ملاحقاته القضائية وقراراته"، يقول رعد. فخطورة القرار أن أي ملف فساد قد يُفتح الآن لوزير، وبهذا المنطق، لا يجب أن يحاكَم إلا أمام المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء، الذي يحتاج استدعاءُ أي وزير أمامه إلى موافقة ثلثي مجلس النواب، أي أنه سيخضع لموازين قوى الأمر الواقع السياسية والحزبية والطائفية وربما السلاح، ناهيك عن أنه غير مكتمل التشكيل حتى الآن. "هذا درع حماية إضافية للطبقة السياسية"، وفقاً لرعد، "وسيمنع أي قاض جديد من السير بعكس الحصانات المفترضة للوزراء والرؤساء. فإذا أراد قاضٍ التحقيق في ملف فساد كهرباء، مثلاً، هل يقال إنه متضرر لأن الكهرباء تُقطع عن بيته أيضاً؟ أو لا يمكنه المُضيّ في ملف احتكار الأدوية لأنه لم يجد دواء القلب لوالدته؟ أو لا يمكنه التعامل مع دعوى على مصرف، لأنه هو أيضاً لا يستطيع سحب أمواله؟!".

الكلام كثير عن "تسييس" انفجار المرفأ كملف قضائي، لكن كلمة تسييس تبدو أرقى بكثير مما نحن إزاءه. فالتسييس يعنى صراع قوى سياسية حول قضية ما. محاولة الاستثمار فيها لتحقيق مكاسب يتيحها القانون نفسه أحياناً، في الشعبية أو الانتخابات أو ممارسة السلطة والنيل من خصوم. مسالك التسييس قد تكون شرعية أحياناً، وإن لم تكن غالباً نبيلة أو أخلاقية، كما رأينا في أميركا (قضايا دونالد ترامب وحصانته)، أو في فرنسا (السترات الصّفراء التي احتوتها سياسة إيمانويل ماكرون بدهاء ونفَس طويل، وإن اختلفت التقييمات لصوابيتها الحقوقية، أو في مواجهة تداعيات كورونا التي أطاحت رئيس الوزراء السابق إدوار فيليب بصرف النظر عن أحقية هذه الإزاحة لمنافس حقيقي لماكرون سياسياً ورئاسياً). لكن هذا الذي يحصل في لبنان ليس تسييساً، بل هو تضافر الطبقة الحاكمة، رغم خلافاتها، في مواجهة تهديد لها ما عادت تحتمله ولا تحتمل ربما ما هو أقل منها في هذه المرحلة المفصلية القلقة.

ليته كان تسييساً!
هذا الذي يحصل في قضية مرفأ بيروت ليس تسييساً، إذ لا سياسة فعلية في بلاد المزرعة والدكاكين. في لبنان، الفساد أصل الحكاية، استخدام الصلاحيات والنفوذ والضغوط والتشريعات لتحقيق مكاسب غير شرعية أو حماية مرتكبين. والمرتكبون، في جريمة المرفأ، ليسوا أفراداً "مستقلين"، ولا عصابات خارجة على قانون سلطة متسلطة وفاقدة للشرعية.

وتنحية القاضي صوان، رغم كل الملاحظات السابقة عليه، تبدو أقرب إلى إفساد لمفاهيم العدالة، من الخطوة القضائية الأولى، إلى الحلم بإصدار حكم وتنفيذه. ليس فقط في ملف انفجارٍ قتل المئات وشرّد مئات الآلاف وتسبب بخسائر بعشرات مليارات الدولارات. بل في كل ملف حيوي مما يعانيه اللبنانيون، وإن سوّلت لأحدهم نفسه بتحريكه، لنَيل ولو جزء من الحقوق الضائعة. والأهم من هذا كله، إن ما حصل في التنحية الأخيرة، والتحجج بـ"احترام الحصانات" و"حياد قاض غير متضرر شخصياً"، يبدو مفخخاً بنزع صفة جوهرية عن مجزرة المرفأ، أي أنها وطنية. لتُعامل كأنها جناية كتلك التي تنظر فيها المحاكم يومياً، مؤلمة فحسب، قاهرة ودامية ومدمرة، لكن بلا سياق ولا تاريخ ولا امتدادات، وهي التي اقتُرفت في حق شعب بأكمله. واحدة من جرائم شبيهة كثيرة قد لا تُصدر دخاناً كالفِطر النووي، لكنها قتلت وتقتل 99% من اللبنانيين في مُعاشهم وحيواتهم، والـ1% يغسلون أيديهم من الدم، كل ليلة، وينحّون القضاة. إلى مثل هذا الملعب يدخل القاضي طارق بيطار.. حَكَماً أم لاعباً؟