هوَس "التعريب" وصناعة الأوهام

شريف الشافعي
الإثنين   2021/12/27
القضية الأخطر هي اعتبار أن التوجه الفج نحو التعريب (على استحالته) إنجاز وانتصار للغة العربية، وللشعوب العربية
لا بأس في أن يحلّ "اليوم العالمي للغة العربية" في كل عام حاملًا في طيّاته جوانب احتفالية، تتردد أصداؤها هنا وهناك في المجامع اللغوية والمؤسسات والهيئات والمنظمات والجامعات والكيانات الثقافية، الرسمية والأهلية، على امتداد خريطة العالم العربي، بداية من 18 ديسمبر/كانون الأول، إلى نهاية الشهر. ففي تلك الاحتفاليات إحياء لذكرى إصدار الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارها رقم 3190 في عام 1973، بإدراج لغة الضاد ضمن لغات العمل في الأمم المتحدة. 

كذلك، فإن في جداول أعمال هذه الكرنفالات والملتقيات السنوية، ما يُفترض أنه تعزيز للغة العربية، ومناقشة لقضاياها الملحّة، ووضع لليد على أزماتها الحقيقية وجراحها الغائرة، أملًا في تداركها، واللحاق بركب العصر. ويتجسّد ذلك على سبيل المثال في عناوين احتفاليات العامين؛ الجاري والماضي، من حيث التركيز على دور اللغة العربية في تعميق التواصل الحضاري، ومد جسور التبادل العلمي والثقافي والأدبي والفني، واستحداث المعارف بوجوهها المتنوعة، وهو ما دفع الكثير من الأبحاث والنقاشات المطروحة إلى الصبّ في فكرة التوسّع في التعريب على وجه الخصوص، كضرورة للنهوض باللغة، وتطويرها، وتمكينها في الميادين العلمية والتطبيقية والأكاديمية والمعلوماتية والفكرية والأدبية وغيرها، إلى جانب إثراء المحتوى العربي في الإنترنت.

ويختصر المنادون بتعريب العلوم والمعارف وسائر المصطلحات والمفردات الأجنبية، وتناقلها وتدارسها بالعربية على كل المستويات مهما تكن درجة تخصصيتها، وصفتهم السحرية بالتأكيد على بعض أمور، هي بحاجة إلى إعادة النظر في حقيقة الأمر، كي لا تقف المناداة بالتعريب عند حدّ بلاغة الإنشاء وحفاوة الاحتفاليات باللغة العربية تحت مظلة القداسة أو الصلاحية التعبيرية والاستخدامية والجمالية في كل زمان ومكان، وفق مقولة أحمد شوقي "إن الذي ملأ اللغاتِ محاسنَ.. جعل الجمال وسره في الضاد". 

يكاد يتفق هؤلاء المتحمسون للتعريب حدّ الهوس والتمسح بالأحلام وصناعة الأوهام، على أن اللغة العربية، التي هي من أقدم اللغات السامية ويتحدثها أكثر من أربعمئة مليون فرد، هي أكثر مرونة من غيرها في احتواء الألفاظ والمفردات والمصطلحات الوافدة، كونها لغة الجذور والاشتقاقات اللانهائية، والمميزات الصرفية، وكذلك فهي الغنية بالمترادفات والمتضادات والبلاغيات، إلى جانب أنها أثرت العالم في عصور سابقة بإنتاج العلوم والآداب والمعارف التي جرى نقلها وترجمتها بسلاسة إلى لغات أجنبية، وأفادت واستفادت من اليونانية والرومانية ولغات أخرى انفتحت عليها بطلاقة في عصور النهضة العربية والإسلامية، الأمر الذي يجعل التعريب في الوقت الحالي غير بعيد المنال، بمعنى صوغ المفردة حال نقلها بلفظها الأجنبي بصيغة عربية، واستعمال لغة الضاد في جميع مجالات العلوم الإنسانية، على أن يتم ذلك من خلال التدقيق في مفاهيم المواد العلمية ودلالاتها وفهم تفاصيلها قبل تعريبها. 

ومع هَدرهم البعد التاريخي، وأن الأمة العربية الآن في موضع الضعف والتلقي والاستقبال بصورة كلية، يستند أصحاب هذه الرؤية إلى أن دول العالم المتفوقة إنما تدرس العلوم جميعها بلغاتها القومية، وعلى الدول العربية أن تحذو حذوها. إلى جانب أنه توجد لدينا مجامع اللغة العربية ومجالسها العليا في مصر وسورية والعراق ولبنان والأردن والجزائر وغيرها، وكذلك جامعة الدول العربية بأنشطتها وفعالياتها اللغوية المتعددة، وهذا من شأنه تيسير أعمال التعريب ووضع أسس ومقومات ومناهج لها، وصولًا إلى غاية سامية، هي النهوض بالأمة العربية وبناء مستقبلها، من خلال النهوض باللغة. 

والمثير أن أنصار التعريب على هذا النحو من التعميم والتضليل يكادون يستعينون بمثال تطبيقي وحيد، هو تجربة تدريس الطب بالعربية في جامعة دمشق، ويعتبرونها تجربة ناجحة، على الرغم من أن الشواهد تشير إلى غير ذلك، من حيث التقييم المجرد للمستوى العلمي والمهني للنسبة الأعظم من خريجي تلك الكلية، وما إذا كان النابهون منهم قد استغنوا بالفعل عن المراجع والكتب الأجنبية، وزهدوا في الحصص التعليمية والفيديوهات الطبية الحية باللغات الأجنبية على شبكة الإنترنت، واكتفوا بقائمة الكتب العربية القليلة، بل النادرة، في هذا المضمار؟

ولعل المسألة الأجدر بالتوقف عندها، هي ليست إمكانية الإمعان في تحقيق هذا التعريب للمعارف والعلوم والفلسفات الأجنبية وتدريسها بالعربية في الجامعات وغيرها أم عدم وجود إمكانية لذلك، بل إن القضية الأخطر هي اعتبار أن في هذا التوجه الفج نحو التعريب (على استحالته) إنجاز وانتصار للغة العربية، وللشعوب العربية. وذلك لأن الإنجاز الفعلي المنشود (الذي أخذت به الدول المتفوقة قبل أن تتمسّك بلغاتها القومية) هو أن تُنتج المعرفة والثقافة والعلوم الإنسانية ولوازم التكنولوجيا باللغة العربية، لكي يكون هناك مبرر لاستخدام العربية في العلم والدراسة، وإلا فإن التعريب (كما هو سائد حاليًا، وكما يجري الترويج للتمادي فيه)، ليس إلا إفراطًا في ثقافة الاستهلاك، والحرث في الفراغ، والابتعاد عن جوهر المعارف والعلوم والثقافات وغيرها، التي يجب أن تُشرَح وتُدَرّس بلغة إنتاجها الأصلية. وهكذا تفعل المجتمعات الجادة التي تنتصر للغاتها انتصارًا حقيقيًّا، فتنتج بها الأفكار والنظريات والمعارف والعلوم والمصطلحات والموسوعات والمراجع وأمّهات الكتب، كما في الإنكليزية والفرنسية والألمانية والصينية واليابانية وغيرها، فالتقدّم لا يكون بترجمة ما هو موجود لدى الآخرين، وليّ عنق الألفاظ والمصطلحات، وإنما بابتكار الجديد، وتطوير القائم، ووضع اللغة في موضع القيادة، لا التبعية، أي أن تنجز العربية ما تطمح اللغات الأجنبية الأخرى إلى نقله عنها. 

ويقود التعالي عن تحصيل العلوم الإنسانية والتطبيقية والمعارف والنظريات الحديثة بلغاتها الأصلية إلى كوارث من شأنها أن تؤدي إلى المزيد من التخلف، وإلى تفاقم أزمات المجتمعات العربية، ومن بينها مشكلات اللغة، ذلك أن انفصام الدارسين العرب عن لغات إنتاج العلم هو انفصام عن العلم نفسه، وعن ركب الحضارة ومسيرة النهضة البشرية، وعن المجلات ومنابر النشر العلمية الدولية المعتمدة، وانشغال بالفروع والشكليات والبيانات الجوفاء (إيجاد معادل عربي للمبتكرات والمصطلحات) عن لب القضية (القدرة على الخلق والابتكار والإسهام العلمي والمعرفي والحضاري). 

وبمثل هذا الانزلاق إلى الهاوية، تنعزل اللغة العربية أكثر فأكثر، وتنأى عن مستجدات الساحة العلمية، وكذلك يتضاءل المحتوى العربي في الإنترنت، وشبكات التواصل العالمية، وفي برمجيات الذكاء الاصطناعي، على الرغم من أن "المستخدمين" العرب يقدّرون بمئات الملايين. ويعاني المحتوى العربي على الإنترنت أزمات فادحة، فهو لا يتخطى نسبة ثلاثة في المئة من المحتوى العالمي. ومن الوجهة الكيفية، فهو عادة يتسم بالفقر والتسطيح وأحادية الطرح، كما أن النسبة الأكبر منه محسوبة على الثرثرة والمعلومات الفوضوية غير الموثقة، والمواد المتكررة والمنسوخة بدون وجود حقوق ملكية واضحة لمصادر بعينها.

إن جهودًا من قبيل توقيع اتفاقيات التعاون بين المجامع اللغوية العربية، وتنسيق العمل من أجل توحيد المصطلحات العلمية تحت إشراف الجامعة العربية، وتطوير الدراسات اللغوية في الجامعات، وإصدار القواميس العلمية التخصصية، وإنشاء أكاديميات التعريب، وإقامة عشرات الاحتفاليات باللغة العربية كل عام، لربما تسهم في وضع خطوط عريضة لآليات استخدام العربية في صياغة لغة علمية حديثة، على أن يكون الهدف هو استعمال تلك اللغة المتطورة في تأليف "أصول علمية"، عندما نكون مؤهلين علميًّا لذلك، لا أن تكون الغاية نقل الكتب الأجنبية الحية إلى العربية المحنّطة، واعتبار ذلك إنجازًا، ومشروعًا حضاريًّا، وحفاظًا على شخصية الأمة وتراثها، ودفاعًا عن الهوية ضد الطمس والنزعات الاستعمارية، فهذه نعرات شوفينية مجانية مضحكة، لا تبتعد في طبيعتها عن تعاطي التيارات الإسلامية مع مباحث اللغة العربية بوصفها شؤونًا مقدّسة، ومعركة جهادية ضد المتربصين بنا فوق ظهر الكوكب!