في طريق الكباش

شادي لويس
السبت   2021/11/27
طريق الكباش
ترتبط القداسة بعدم الفهم، الاستغلاق يضفي مسحة من السمو على موضوعه. مثلاً احتفظت الكنائس الكاثوليكية بلاتينيتها التي لم يعد يفهمها أحد. وعادة ما تُتلى الطقوس بلغات قديمة، ميتة على الأغلب. والتعاويذ، إن لم تكن بألسن غير مفهومة، تُشفّر، فتضحي الكلمات المفهومة بلا معنى حين توضع الواحدة الى جانب الأخرى، وهكذا تُفرغ من معناها عمداً. فحين يبدو المفهوم مستهلكاً وأرضياً ويومياً إلى حد مبتذل، يبرز استعصاء الفهم كبديل سحري، يتفرّد بوعد القيمة الكامنة، والتي يستحيل التيقّن منها أو نفيها.

كان للنجاح الاستثنائي الذي نالته أنشودة إيزيس، والغناء باللغة المصرية القديمة (أو هكذا يقال)، أن يكون سبباً كافياً لتكرار التجربة، والتوسّع فيها. من موكب المومياوات الملكية في وسط القاهرة في أبريل/نيسان الماضي، إلى افتتاح طريق الكباش في الأقصُر قبل يومين، تعود التعويذات الهوياتية، كأناشيد بلغات ملغزة على وقع موسيقى أوبرالية، شديدة الدراماتيكية. مزج غرائبي للغة ميتة مع موسيقى ثقافة عليا مستوردة، لخلق شعور متفجر بنشوة الانتماء.

استلزم ترميم طريق الكباش الأثري، الذي بدأ في العام 2005، عملية تجريف لتراكمات التاريخ ولحياة السكان، أزيلت "المخالفات"، أي بيوت الأهالي ومنشآتهم وكذا دور عبادة، بطول 2700 متر، ومعها طبقات من المعمار الأثري، المتعايش جنباً إلى جنب لقرون، القديم بجوار الأقدم. كانت إعادة الافتتاح تعني أمرين: تحويل الموقع إلى "متحف مفتوح"، أي ساحة حصرية للنشاط الاقتصادي في صورته السياحية. والثاني، ترسيخ فهم طهراني للتاريخ، يراه في صورة أصلية بعيدة ومغرقة في القدم، صورة تجب استعادتها كما كانت بحذافيرها، باعتبار كل ما تلاها مجرد شوائب يجب محوها. ولا تعارُض هنا، فتلك الخبرة "الأصيلة" بالماضي هو ما يباع للسائح وللمواطن على السواء. للأول، كرحلة مثيرة في الزمن إلى النقطة التي توقف فيها جريانه. أما بالنسبة للمواطن، فإن تلك النسخة النقية من الماضي لا تعني إلا شعوراً مضخماً بالمجد ينحسر معه الواقع المعاش ويتشوش الآني.

في موكب المومياوات، كانت التوابيت الملَكية هي مركز العرض وموضوعه، وهي تتقدّم على الطريق الأسفلتي محاطة بالاستعراضات والمجموعات الراقصة. حينها، ظهر الرئيس، وأفردت له مساحة معتبرة، لكن ظهوره جاء على جانب الحدث، أو بالتوازي مع حدوثه، وهو يستقبل التوابيت ويلوح لموكبها. لكن، في افتتاحية طريق الكباش، صار الرئيس هو الموضوع، تتبعه الكاميرا وهو يشق طريقه في المسار الذي يصطف على جانبيه أكثر من ألف تمثال متطابق (بعضها لكباش وبعضها لتماثيل أبو الهول في الحقيقة). وأثناء احتفالية الافتتاح، جلس الرئيس إلى جانب زوجته ليشاهد المقاطع المسجّلة له وهو يتقدّم في الطريق الأثري بمفرده، أو في معيّة أحد المسؤولين الذي يشرح له بعض التفاصيل. يظهر السيسي مكرراً، مضاعَفاً كانعكاس لنفسه، صورة داخل صورة، وشاشة داخل الأخرى، بوصفه البطل والمُشاهد معاً.



تعاد العناصر الاستعراضية المستخدمة في موكب المومياوات، المجموعات الراقصة مع تأثيرات الإضاءة، على خلفية من الألعاب النارية والليزر، ومعها ديكورات وتصميمات حركة بحسٍّ هوليوودي. لكن الانبهار السابق لم يتكرر هذه المرة، بدت افتتاحية طريق الكباش، تكراراً كسولاً لعرض نجح لمرة واحدة في الماضي. ما نال بعض الاستحسان، كان إعادة إنتاج استعراض "الأقصُر بلدنا" من فيلم "غرام في الكرنك" (1967)، وإن كانت النتيجة باهتة ولا ترقى لحيوية الأصل. كان التركيز على الرئيس قد أثقل الاستعراض بشحنة فجة في مباشرتها من البروباغندا. وأزعج البذخ البادي الكثيرين، خصوصاً مع تكراره. أما بقية فقرات الاحتفالية، فلم تتعدّ إعلاناً سياحيا طويلا وركيكاً، عن المناطيد ورقصة التنورة والمسّاج في الفنادق وركوب الجمال.