إيتيل عدنان... الجبل يرسم غيومه

محمد شرف
الجمعة   2021/11/19
"لا يكفي أن نعرف، بل أن نعيش تجربة ما نعرفه"
رحلت إيتيل عدنان بعد عمر مديد. يُخيل إلينا أن روحها القوية جعلتها تتعدّى السنين وتتجاوزها، وصولاً إلى قمة "جبل"، كذاك الذي رسمته ذات يوم مع سيمون فتّال، باللون الأصفر، وسماء ورديّة وزرقاء، وكأن النهار والليل يندمجان فيه، وذلك عبر أسلوب طفولي بسيط، لكنه يعبق بالحياة وبالعودة إلى الجذور:

"بزغت الشمسُ
وغـَرُبَ الألم 
نافذة ٌ تطلّ على الجبل الوحيد
صرتُ شجرةً
أنزلت عن صليبها
رُدّتْ
إلى جذورها".

لن يكون من الضروري العودة إلى أصول إيتيل عدنان، التي صارت معروفة للجميع، لكثرة ذكرها خلال السنوات الماضية، وفي الفترة الأخيرة بعد وفاتها. لكن ينبغي القول إن سلالة الإغريق والروح الغربية إجتمعتا فيها، وأدى تنقلّها بين بلدان في قارات ثلاث، آسيا وأوروبا وأميركا، إلى تكوين ثقافة متنوّعة ومتعددة المصادر. هذا الأمر يصبح مفصلياً وذا أهمية جليّة لمن شاء أن يكتب شعراً أو نثراً أو يرسم ويلوّن. مزيج من هذا النوع كان من شأنه أن يجعل من الهمّ الإنساني، في شموليته، أحد صفات الكاتبة والشاعرة والفنّانة، ولو أن ثمة فروقاً في التعبير يتطلّبها كل فرع من هذه الفروع، المتّصلة حيناً، والمنفصلة عن بعضها البعض في أوقات أخرى. في هذا "الإشتباك" بين المؤثرات المتعددة، إنحازت، كأي شاعر حقيقي، لعذابات الإنسان وآلامه، وإلى الناس المقهورين، لذا، فقد كتبت عن الثورة الفيتنامية وحرب الجزائر وإحتلال العراق، والقضية الفلسطينية في طبيعة الحال، وهي التي ظلّت لازمتها الدائمة، إضافة إلى تطرّقها إلى تراجيديا العرب في العصر الحديث.

بين البحر والجبل
لو شئنا الإنتقال، من دون مقدّمات، إلى إهتمامات الشاعرة في المجالات ذات الطابع الشعوري، لقلنا إن إيتيل عدنان التي ذكرت الجبل مالت إلى البحر في شكلٍ موازٍ. البحر والجبل اللاين يتجاوران، كما في "المعجزة" اللبنانية، أو يتباعدان ليشكلا نقيضين، لطالما خُيرت الخليقة في تفضيل أحدهما على الآخر، في حوارات متلفزة سطحية المستوى، يصبحان، من حيث مدلولاتهما الرمزية والشعورية، رافدين شعريين وتشكيليين لدى الشاعرة – الفنّانة. تقول إيتيل عدنان إنها كانت تسبح في سن الرابعة، وتضيف: "كنت، مذّاك، أشعر وأحس أنني أسبح في وجود مطلق.. كتبت في شعري ما معناه: ما أحببت الرجل لأنني أحببت البحر أكثر من حبي للمخلوقات الأخرى". كتبت أولى قصائدها عن البحر وهي في سن العشرين. اهتدت حينذاك إلى الشعر بالفطرة، وعادت إلى البحر غير مرة كلّما إصطدمت بحضوره المادي، أو بما يذكّر به. وهي تضيف في مكان آخر، ولو في إتجاه قليل الإختلاف، لكنه ذو علاقة بالحقيقة الوجودية: "وطّدت علاقة سليمة بالكون. هذا أمر أنا متأكدة منه. أتنقّل بحريّة بين الشمس والقمر، وأذهب أبعد وأغوص في ثقوب سوداء وأخرج منها سليمة".

في رحاب التشكيل
وكما تنقّلت إيتيل عدنان، ذهنيّاً، بين عناصر الكون، تنقّلت أيضاً بين الكتابة والرسم. ولو شئنا البحث عن علاقة تجمع ما بين شعر عدنان ورسومها، لكان الأمر سهلاً من جهة، وأكثر تعقيداً من جهة أخرى. هذا الحكم يحيلنا إلى تساؤل، قد يبدو مستهلكاً، لكنه لطالما خطر في بالنا: أيهما أكثر قابلية للتعبير عن كوامن النفس: اللغة أو التصوير التشكيلي؟ ويبدو أن الشاعرة شاءت، بعدما ركبت موجة الشعر، أن تبحر أيضاً في عالم التشكيل، مسلّحة بإستعداد فطري وبحريّة كاملة، من دون قيود أو إلتزام بمعايير من شأنها أن تنتقص من إمتدادات الشعور وآفاقه. هذه الحرية، الشبه مطلقة (على أساس أن المطلق يبقى في نهاية المطاف مستحيلاً، كما نعتقد) شكّلت أحد أسلحتها التي رافقتها طوال مسيرتها الفنيّة، ولم تتخلَ عنها يوماً.

كتبت إيتيل عدنان قبل أن ترسم، كما تقول، وهي تعتبر أن الكتابة والرسم، بداهة، يصدران عن روح واحدة، إنما يتم التعبير عن هذه الروح بوسائل مختلفة. الكشف عن كامل العلاقات التي تجمع بين الإثنين ليس في مقدور أحد أن يفعله. وهي تضيف في هذا المجال: "نحن نقوم بعمل أشياء كثيرة لا ندركها. نحن نمشي مثلاً، ولا نعرف ميكانيكا المشي في جسمنا. حتى الإخصائي لا يعرف ذلك على نحو نهائي. هناك سر دائماً.. في الكون أسرار كثيرة، ونحن لا نعرف إلاّ القليل القليل من الحقائق". لكنها، كما يبدو، اعتبرت أنّ الصورة أقوى من الكلمة، فهي أيضاً لغة، وفيها من الفلسفة الحيويّة ما يمكّنها من إحداث تأثير أكبر على الآخرين. لذا، يمكننا ملاحظة إهتمامها الزائد بالتشكيل خلال سنوات حياتها الأخيرة.



كانت الفنّانة تكنّ تقديراً خاصاً للرسام الإيطالي فرا أنجيليكو، الراهب الدومينيكاني، الذي سعى إلى ربط المبادئ التصويرية لعصر النهضة، كالإنشاءات والمنظور وتمثيل القامة البشرية، بقيم الفن القديمة في العصور الوسطى كالوظيفة التعليمية والقيمة الصوفية للضوء. تصوّرت إيتيل عدنان الفنّان وهو منهمك في رسم الملائكة، التي لا يرسمها، كما تعتقد، بل يخلق تلك التي فات الله خلقها، ويرشّ الذهب فوق رؤوسها. كانت إيتيل عدنان تتلمّس واحداً من جدرانه المزدانة بالتصاوير (مع العلم أن تلمّس الجدران ممنوع في الواقع، لذا علينا أن نشير إلى المعني المجازي للعبارة)، فتشعر وكأنّ ملاكه المرسوم قد بُعث حيّاً. أناس مثل أنجيليكو لا يفدون إلى هذ العالم جماعات، كما تقول. وفي ما يخص الفنانين الحداثويين الذين تأثرت بهم، تلفت عدنان إلى حبها العظيم لبعضهم مثل كازيمير ماليفيتش وبول كلي وفاسيلي كاندينسكي، وكذلك الكندي أغنيس مارتن، والألماني سيغمار بولك، أما الفرنسي نيكولاس دي ستايل (1914 – 1955) فهو يمثّل نقطتها المرجعية الواضحة، بحيث أن أعمالها تذكّر الناس به، بالرغم من أنهما غير متشابهين على الإطلاق. أمّا من الناحية التقنيّة، ففي حين استخدم دي ستايل السكين في الكشط والتلوين، كانت الفنّانة أستعملتها في رسوماتها الزيتية.

"أكتب ما أرى، وأرسم ما أنا عليه"
تناولت الفنّانة في أعمالها موضوعات متنوّعة مثل الهويّة والحرب والإنقسامات التي تحدث في وطنها، مستلهمة ذلك من تجربتها الشخصيّة، ومما يحوطها على حدٍ سواء. تستعير الكاتبة – الرسّامة اقتباساً من "كتاب البحر" تذكر فيه: "أنا أكتب ما أرى، وأرسم ما أنا عليه"، ثم توضح في مكان آخر: "إن كتاباتي ولوحاتي ليس فيها إتصال مباشر بما هو في ذهني، وهما بالتأكيد يتأثران ببعضهما، حيث إن كل ما نقوم به يرتبط بشيء فينا، ويتضمّن كل ما قمنا به. لكن بشكل عام، فإن كتاباتي مرتبطة بالتاريخ كما هو (ولكن ليس فقط)، ورسومي هي إنعكاس لحبّي الكبير للعالم، والسعادة التي ستكون، وللطبيعة والقوى التي تشكّل مناظرها".

إيتيل عدنان هي رسّامة الشعر، إذا جاز القول. عالمها التشكيلي عابق بالألوان التي لم تعرف الكمود إلاّ لماماً. العذوبة والشفافية التي تميّز عالمها الشعري يمكن رؤيتها، من دون جهد، في لوحاتها. يقول الناقد الفرنسي جان – مارك بودسون، الأستاذ الزائر في جامعة لوفان الكاثوليكية: "إن ما يجذب العين في لوحات إيتيل عدنان، قبل أي شيء آخر، هو الفرح وسعادة التأمّل. إلاّ أن هذه البساطة المطبوعة بالفرح، التي تنكشف عن الإنطباع الأول، لن يكتمل معناها، ولن تترك بصمة فينا، إلاّ إذا وجّهنا إنتباهنا إلى تنوّع شخصيتها وعمقها وحيويتها". ويتحدّث الناقد، أيضاً، عن تلاقي "عمل اليد وعمل الروح في لوحاتها، على غرار الحركة والكلمة اللتين أصبحتا محط النظر". لا بد هنا أن نتذكّر، مرّة أخرى، عبارة الفنّانة الأثيرة: "أرى لأرسم، وأرسم لأرى.. إن الرسم يعبّر عن مكاني السعيد، ذلك الذي يشكّل واحداً مع الكون". هكذا، فحين تقول، في مكان آخر، أنها سافرت في غضون ثوان إلى حافة الكون، أو "أنا مشهد ومياه جارية" تصبح الصورة التي تسمّيها حقيقة شعرية أكثر غموضاً من أن تمثلها قماشة. أمّا حين تقول: "الجبل يرسم غيومه / يرتعش الضوء فوق أشجار الصبّار.."، فيخيّل إلينا أن لوحاتها العديدة التي ظهر فيها جبل، أو جبال، تستجيب لهذه الصورة الشعرية، من دون أن يكون ذلك ترجمة مقصودة للصورة الشعرية. وكما كان شعرها يحمل نقاءً وشفافية،  فقد سارت لوحتها على الدرب ذاتها، فلا أثر لشيء في اللوحة من خارج المشهد. لوحة من دون حضور بشري، لا شيء يعكّر صفو اللون فيها، إذ لا نرى حتى توقيعها، كما هو سائد في عالم التشكيل، وهو ما لاحظناه خصوصاً في السنوات الأخيرة، إذ يبدو أن المشهد يحمل صورتها: "تلك الجبال والبحار هي وجهي الآخر. الوجه الأكثر ثباتاً في الزمان".

نهاية، من الصعب أن تُصنّف أعمال إيتيل عدنان ضمن إتجاه فني محدد. كانت تبحر بين الأساليب أحياناً بحسب ما يتطلّبه الموقف الشعوري. من ناحية أخرى، ليس من السهل تأطير لوحاتها في زمن محدد. كانت الفنّانة تفضّل الأحجام الصغيرة، إلاّ أن ذلك لم يقف حاجزاً أمام الروحية المنبعثة من المساحات الفارغة، بالرغم من صغر حجم اللوحة. وهي، حين ترسم المشاهد الطبيعية، والجبل والبحر من ضمنها، تلجأ إلى فرشاة عريضة ومساحات لونية مغمورة بالضوء. قد نرى لديها بعض الإشارات إلى الواقع، في حين أن أعمالاً أخرى تقترب من التجريد. هكذا، بقيت الفنّانة خارج المدارس والنظريّات الفنيّة، وهي تعي، في طبيعة الحال، أبعاد تلك النظريّات وأهمية الإتجاهات التي تعددت وتمازجت خلال العقود الماضية، لكن اللوحة لم تكن، بالنسبة إليها، سوى تجربة، وليس مجرّد معرفة: "لا يكفي أن نعرف، بل أن نعيش تجربة ما نعرفه"، كما كانت تقول.