معرض فيصل لعيبي في الدوحة..العراق الملوّن بصيّاديه وباعَته ومقاهيه

محمد شرف
الجمعة   2021/10/29
فيصل لعيبي
لا بد، في بداية هذه المقاربة لأعمال فيصل لعيبي، من ذكر أننا تواصلنا مع الفنّان، الذي نعرف أعماله ونتاجه، لكن لا تجمعنا به علاقة شخصيّة. كان التواصل المباشر قصيراً. لكن، وبالرغم من دقائق الحديث المعدودة، أمكننا تلّمس لطافته الواضحة، وتبيّن، بعد إضافة مفاعيل المحادثة إلى معاينة كاتالوغ المعرض، الذي نحن في صدده، إن ما يجمعنا، إضافة إلى الشغف بالتصوير، الموقف من بعض الزيف الذي يتعرّض له الفن التشكيلي، بين حين وآخر، عبر مواقف وممارسات من يشاء إغراقه في مستنقعات الإبهام، وتجريده من المعنى. هذا، مع العلم أن كلامنا هذا لا يمسّ من أراد انتهاج سبل لا تتوافق مع وجهة نظرنا، إذ نحترم من يسلكها، حين يكون مدركاً ما يفعله، وعلى إقتناع بما تصنعه يداه.

المعرض، ذو الطابع الشبه إستعادي، لكونه يضم أعمالاً تغطّي ستة عقود من مسيرة الفنّان، والمقام لدى "غاليري المرخية" في الدوحة... نقول إن هذا المعرض أطلقت عليه تسمية "يوميّات عراقيّة". العنوان، من حيث الشكل، يمكن أن يشير إلى الذهاب في إتجاهين: إتجاه ذاتي يرتكز على المعيش الشخصي في بيئة أو مكان معيّن، الذي هو العراق في حالة الفنّان، (علماً أن لعيبي يعيش في لندن حالياً) وإتجاه آخر موضوعي، يستند إلى معاينات تم على أساسها تنفيذ مجموعة من الأعمال التصويرية. لكن، وكما ذكرنا، هذا الحكم هو شكلي من حيث المبدأ، أما النتيجة العملية فتذهب، عادة، في إتجاهات مختلفة، فتُختصر أو تتفرّع أو تتبدّل، بحيث أن النتاج – المحصول يصبح خاضعاً لنواميس يختلط فيها الذاتي بالموضوعي، والمرئي مع المتخيّل.

على أن قاسماً مشتركاً يجمع بين كل ما تم ذكره، وهو أن فيصل لعيبي، وعلى مدى العقود الستة الماضية، كان يحمل همّاً إنسانياً تمحورت حوله أعماله، وتبلورت، من خلال هذا الهمّ، الذي لم يفارقه يوماً، نظرته إلى التشكيل كمهمّة لا تختلف عن سواها من المهمّات التي تجعل النشاط الإنساني ذا فائدة ومعنى. وكأنه، هنا، يتوافق مع ما قاله فاسيلي كاندينسكي: "إن الفن هو الخميرة الحقيقية التي تؤدي إلى تحوّل حقيقي للإنسان ولتطوّره، إذ إن من بين مسارات المعرفة المتعددة، يبقى المسار الفنّي هو الأكثر سلاسة، وبالتأكيد الأشد لفتاً للنظر، والأكثر ديمومة". هذا، مع الأخذ في الإعتبار أن كاندينسكي، الذي هو أحد روّاد التجريد في الفن الغربي، تعامل مع هذه المهمّة، في زمنه، من وجهة نظر أسلوبية مختلفة، ونهج مغاير عمّا نراه عند لعيبي، وهذا حديث آخر يستلزم نقاشاً يضيق به المجال.

ما يهمنا هو التأكيد أن أسلوب فيصل لعيبي جاء بعيداً من المنحى اللاتمثيلي، أي التجريدي، بحسب التعبير الأكثر إستعمالاً. فالفنّان يؤكّد على ضرورة أن يكون الفن إجتماعياً، ولذا، يصبح من الواضح أنه لا يؤمن بمقولة "الفن للفن"، التي كانت، ولم تزل، موضع جدال لا ينتهي. الفن، في نظر لعيبي، هو طريق للتعبير عن معاناة الإنسان، وردّ فعل تجاه الحدث، ومواقفه تجاه ما يدور حوله. إلى ذلك، وربما بالتوافق مع وجهة النظر هذه، يولي الفنّان إهتماماً خاصاً بالموروث الشعبي، لكون هذا الموروث هو مرآة لأحوال الجماعات البشرية ذات الأصول الراسخة في التاريخ، كما هي حال الشعب العراقي.

وإذ يُخيّل للبعض أن السبل التشكيلية الآيلة للإستفادة من هذا الموروث هي مهمة سهلة، نظراً لتوافر المصادر، وكثرة المنابع، فلا شك أنهم قد يبحرون عبثاً في الوهم، وسيُبنى سلوكهم وخططهم على إمكان إيجاد حلول سهلة لموضوعاتهم من دون جهد كبير، وذلك من خلال إستجداء عناصر مستهلكة، وصولاً إلى نتائج لا تخرج عن إطار الفولكلور في مظاهرة المسطّحة. هذه المسألة أعمق من أن تُعالج بسطحية وخفّة، وإذا كان لعيبي عمل على إستثمار ما خلّفه التاريخ والتراث والعادات والأماكن الشعبية من إرث غني ومتنوّع، فقد قام بهذا الفعل بعد دراسة وتجارب، وفهم للظروف والأسباب والنتائج التي أملاها تفاعل الثقافات.

أمّا من الناحية العملية، فقد أتى نتاجه ذا طابع شكل مباشر حيناً، ومضمر أو ملغّز أحياناً أخرى، بعيداً، في الحالات كلّها، من "فولكلور البطاقات البريدية" (التي صرنا نفتقدها بعدما حوّلتها التكنولوجيا الرقمية إلى ذكرى)، وذلك من خلال إشارات وتجلّيات قد يحتاج المتلقّي، من أجل الإحاطة ببعضها، لثقافة ومعرفة، ولو في حدودهما المعقولة، كما أشرنا أعلاه.

وإذ اختطّ الفنّان لنفسه أسلوباً بعيداً من التعقيد، قد تنطبق عليه مقولة "السهل الممتنع"، فذلك بهدف سعيه إلى إيجاد التوازن الدقيق، والصعب، ما بين الذائقة الشعبية التي لا يتمتع أفرادها كلّهم بالثقافة المطلوبة من أجل معاينة العمل الفني بكل أبعاده، و"النخبة" (في معناها الإيجابي البعيد من التشاوف والكبرياء) التي كانت ثقافتها شملت الإطلاع على بعضٍ من تاريخ الفن التشكيلي، ومنجزات القائمين به على مر الزمن، مما جعلها أكثر إستعداداً لتقبّل المنتج. على هذا الأساس يمكننا تذوّق مشهد بائع البطيخ و"بسطته" الممتعة للنظر، والطبيعة الصامتة المزيّنة بدورها بأصناف الفاكهة، وبائع اللحم (لم نقل الجزّار لكون الكلمة الفصيحة تحيلنا إلى مدلولات قبّحت بعض مراحل تاريخنا العامرة بالمجازر)، وكذلك بائع السمك وسواه من أصحاب المهن. كما لا تغيب المقاهي، المكان المفضّل للجلوس و"التأمّل" لدى أصناف مختلفة من البشر، حيث نرى زاوية مدخني النارجيلة الكسالى، وكذلك محبّي الدردشة والكلام الثقيل، أو الخفيف، والنميمة، والحيّز الذي يتم فيه صوغ خطط ومشاريع، بعضها واقعي، وبعضها الآخر ليس أكثر من أوهام. ويقول الفنان عن موجودات المعرض: "لوحاتي مباشرة وليس فيها غموض فأنا أسرد طقوس حياة العراقيين التي مازالت عالقة في ذاكرتي بكل تفاصيلها كالصيادين واستراحات العمال ونساجات البسط والملابس والخياطات وطقوس شرب الشاي العراقي والتسوق والفتى بزيه التقليدي المحلي العراقي وباعة الفواكه، وفرقة الجالغي البغدادي، صباغي الأحذية، الحلاق، المكوجي، المصور الفوتوغرافي (الشمسي)، والجايجي كل اولئك واكثر جمعتهم في هذا المعرض".

ومن الملاحظ أن لوحة لعيبي تفرد مكاناً في زاوية محددة، أو قد يفرد عملاً بكامله، من أجل طرح مشكلة إجتماعية، كالهيمنة الذكورية على المرأة، وإستغلالها بأبشع الصور، التي إقتناها متحف الفن العربي الحديث في قَطَر. وإذا لاحظنا، أيضاً، أن شخصيات كثيرة في اللوحات صلعاء، ولا شعر يغطّي رأسها، كما أن أصحابها ذوو قامات قصيرة، وأطراف متينة، فإن الفنان يبرّر هذا الأمر بقوله إن غالبية هذه الأعمال مستوحاة من تمثال غوديا، إذ إن السومريين القدماء، وخصوصاً رجال المعبد، كانوا حليقي الرؤوس دليلاً على القداسة، والنظافة أيضاً.



ولا بد من الإشارة أن نتاج فيصل لعيبي، وعلى مدى العقود الماضية، جاء متنوّعاً، أكان من حيث موضوعاته، أم من حيث التقنيات المستعملة في تنفيذ الأعمال. ثمة أعمال تخطيطية – غرافيكية يضمّها المعرض، وأعمال أخرى ذات تقنيات مختلطة. كما يخطر الآن في بالنا المعرض الذي كان أقامه لدى غاليري "آرت سبايس – حمرا"، العام 2017، تحت عنوان "فانتازيا المحرّم"، وكان المعرض ضمّ لوحات تمثل قامات أنثوية عارية. المفعول البصري، واللون، والإحترافية، وتلبية ضرورات التأليف المحكم، والخبرة، واضحة كلّها في هذه الأعمال، كما في نتاج الفنان بمجمله. هذا، وبالرغم من المكانة البارزة التي يشغلها فيصل لعيبي في عالم الفن التشكيلي العراقي المعاصر، فقد صرّح يوماً: "... هل نجحت أو فشلت؟ (ويقصد هنا في مهمته الفنية وأسلوبه)، هذا عائد للمتلقي والناقد، وربما تكون كل أعمالي ذهبت هباء، ولم أقّدّم شيئاً حقيقياً بحسب آراء بعض النقّاد". هذا التواضع الجميل هو من صفات الكبار، أما "عنتريات" الصغار فمعاناتنا معها لا تنتهي.