كيف دخلتُ شارع بدارو

عادل نصّار
الإثنين   2021/10/25
الشارع يقبل بتعايش التنافر من دون تفاعله (مصطفى جمال الدين)
لسنوات عديدة خلت، كنت أدور حول شارع بدارو من دون أن أدخله، أو أن أرتاد أي مكان أو مقهى هناك، رغم وجود العديد من أصدقائي القدامى في الشارع، الذين انتقلوا إما للعيش فيه أو لعقد لقاءاتهم ومسامراتهم. فكنت غالباً، وأنا أمارس رياضة المشي، أجاوره من ناحية ميدان سباق الخيل، ثم هبوطاً نحو المتحف الوطني، فإدارة الجامعة اللبنانية نحو السوديكو، في طريقي إلى شارع الحمرا. وعند عودتي مساءً أهبط قليلاً بإتجاه نقابة المحامين، وأدخل في شارع وزارة الشؤون الاجتماعية فأحاذيه تماماً، وتمسي بداية الشارع عند تقاطع الشفروليه بوجهي تماماً، فأشيح نظري عنه، وأسلك طريق فرن الشباك، أو أصعد صعوداً نحو دوار الطيونة حيث مسرح دوار الشمس مجاوراً طرقاته الفرعية ومؤسساته على اختلاف أنواعها.

منذ ثلاث سنوات تغيّرت عاداتي، مثل اللبنانيين جميعاً، مع التغيرات التي طرأت على البلاد، بفعل ما جرى من تظاهرات وقطع طرق اعتراضاً على فساد الحاكمين بأمرهم، تُضاف إلى ذلك جائحة كورونا التي انتشرت موجات صعوداً وهبوطاً. فبتّ، وعند السماح لنا بمغادرة منازلنا خلال فترات فك الحجر الصحي، أرى أن أفضل الطرق وأكثرها أماناً للترويح عن النفس، هو تناول فنجان قهوة في أحد مقاهي بدارو، نظراً لقربه من مكان سكني في الضاحية، وذلك بعدما دعاني إلى هناك أحد اقربائي قبل مغادرته البلاد. فكنت وكأنني أريد أخذ الإذن كي أدخل الحي، وكأنني احتجتُ مرشداً قبل أن أتحول شيئاً فشيئاً إلى رائد من رواده، بعدما تبددت الخشية، وأصبحت جزءاً من الحي، وما عدت غريباً عليه ولا الأشياء غريبة عليّ.


يعج شارع بدارو بالمؤسسات على أنواعها، عسكرية أو مدنية، وهو لأجل ذلك شديد الزحام منذ ساعات الصباح الأولى عند قدوم الموظفين إليه، بحيث تختنق بداية الأرصفة بسياراتهم المركونة على جنباتها، أو في المواقف، ولا يعود من متسع لسيارات الزائرين لقضاء حاجياتهم في الجهة التي يقصدونها.



ومما يفاقم الزحام والاختناق أن الشارع مليء بالمدارس والجمعيات المدنية، وبضعة مصارف وقنصليات ومقاهٍ وكنائس ومكاتب محاماة وأطباء وفنانين ومثقفين، ومحطتي وقود تسببت بتفاقم الزحام بفعل الشح في الوقود في البلاد، وهناك الدراجات النارية والهوائية والكلاب والقطط، وبعض الروائح التي تهب بين الفينة والأخرى بفعل عدم إزالة مخلفاتها من قبل أصحابها.

في الشارع تكثر خدمة التوصيل منه وإليه، عبر الدراجات النارية الخفيفة، وكذلك سائقي سيارات الأجرة منه وإليه. وهناك الآليات التي تأتي بحاجات المحال والمقاهي والحانات، وأيضاً خزانات المياه التي تقطع بوقوفها حركة السير وتتسبب بالزحام والضجيج.
الشارع مقصود ومحل إقبال، إما لغاية العمل أو الطبابة أو تزجية للوقت. وهناك متسع للجميع أن يقضي أوقاته وحاجياته من دون أن تتداخل هذه الفئات مع بعضها البعض، فلكل حيزه الخاص ومن النادر أن يحصل اختلاط.

حالة الأبنية متوسطة أوضاعها إذ إنه مر زمن على إنشائها. مع ذلك بدأت بالظهور فيه بعض المباني الحديثة مما أدى إلى هجران بعض سكان الحي القدامى للشارع، ليحل محلهم ميسورو حال جدد، من الطبقة المتوسطة حديثة النعمة، ورثوا ما تركه لهم السكان المغادرين من عادات وتقاليد في السلوك والملبس والمأكل، وآخر صيحات الموضة والتقليعات في الأفكار حتى تجد لها مكاناً في الشارع، ومرحّب بها، ناهيك بالعناية بالجسم وتقسيم أوقاتهم وحتى التعرض للشمس ومدته، ورثوا ذلك كله ويورثونه لكل من يدخل الحي في زيارة أو للإقامة الدائمة.

حتى الذوق ينعكس في سهولة التعارف بين الأغراب في الحي الذين لا يعودون كذلك لمجرد أنهم دخلوه. والتعارف قد يحصل لأقل الأسباب شأناً. إشعال سيجارة، ملاعبة حيوان أليف، كتاب، وغالباً ما تجد الكلاب تتهاوش من رصيف إلى رصيف، وإذا ما التقى أكثر من كلب في المقهى ذاته، يدخل أصحاب هذه الكلاب لإصلاح ذات البين فيبدأون بملاعبة كلاب بعضهم البعض، وبعدها تدخل الصلحة حيز التنفيذ.

في الليل، تتقاسم المقاهي روادها مع الأرصفة، لضيق المكان، ويتعارف الناس بذوق وأخلاق. على ما أذكر، قبل سنوات لم يكن في بدارو سوى مقهى واحد عند دوار الطيونة بجانب مسرح دوار الشمس، وقد أقفل وكان يشكل نقطة جذب لأصحاب اللقاءات الرومنسية القادمين من المناطق المجاورة. ولم يكن في شارع بدارو سوى دكان واحد يبيع السندويش، يقصدها الكثير من الموظفين، ولم يكن هناك سوى حانة ليلية واحدة تملكها امرأة من البقاع الغربي. واليوم باتت بدارو، بابل المقاهي والحانات الليلية، ومقصد الرواد الذين ربما وجدوا فيها بديلاً من الزحمات في شوارع اخرى.

على أطراف شارع بدارو، يعج نهار الأحد بالزائرات الإثيوبيات لأداء شعائرهن الدينية في إحدى الكنائس المخصصة لهن، مما يضفي جواً آخر من التنوع على الحي. إلا أنهن يبقين وحدهنّ من دون إمكانية لأي اختلاط مع الآخرين بفعل تفاوتات يعج بها المجتمع اللبناني. وغالباً ما يعجزون عن الدخول إلى المقاهي المفتوحة على مدار الأسبوع، لأنها دون متناولهن. أما تلك التي في متناولهن، فهي مقفلة نهار الأحد، فبالإجمال ورغم تنوع مجتمعات حي بدارو، إلا أنها لا تتداخل بين بعضها البعض كالنوادي. هي تسمح باختلاط أفراد كل نادٍ أو مجتمع مع بعضهم البعض، فالشارع يقبل بتعايش التنافر من دون تفاعله.

المتسولون في الشارع لهم حيزهم أيضاً، وحركتهم، وإن كانت تميزهم قلّتهم وعدم لجوجيتهم نسبياً. ويحرص المشرفون عليهم على تعليمهم سلوكيات معينة مع زائري الحي. مثل أن يحتفظوا بمسافة كافية عنهم، بعضهم يلتزم بذلك وبعضهم يسهو.

وجدت في هذا الشارع ملجأ لي في ظل الأوضاع المتفاقمة في هذه البلاد التي تسكنها كالشيطان الأبدي. في الأيام الأخيرة، كان الخوف أن تمتد مقتلة الطيونة إلى أماكن أخرى، فتطيح شارع بدارو، الذي، شهد لجوء الكثير من رواد مار مخايل والجميزة إليه، بعد تفجير مرفأ بيروت...