مغامرة جاك شيفران

روجيه عوطة
الأربعاء   2021/10/20
صاحب الفضل في ترجمة الأدب الروسي إلى الفرنسية، والأدب والفلسفة الفرنسيين إلى الانكليزية
لا مغامرة سهلة، وإن كانت كذلك، لا تعود على معناها. لكنها، حين تكون عويصة للغاية، فمعناها هذا ينقلب عليها، لتصير وضعاً آخر. هذا الوضع، وبحسب سيرة الناشر جاك شيفران التي وضعها المؤرخ الفرنسي آموس ريشمان، يُدعى المنفى، لكن، بسبب ابتذال هذه التسمية، لا بد من استبدالها بأخرى، لتدل اكثر على طريق سلكه شيفران، ولم يودِ به سوى إلى ما يشبه الأنفة التي لطالما اقترنت بالعذاب.


ولد شيفران في الإمبراطورية الروسية العام 1892، عاش في سان بطرسبرغ، ثم في سويسرا، قبل أن يغادرها إلى فرنسا. هناك، حيث سيسجل اسمه في تاريخ النشر الأدبي، إذ أنه سيعمد العام 1923 إلى تأسيس مجموعة نشرية جديدة، يجعلها، ومن اسمها، تنتمي إلى عصر النهضة الغابر، فتحمل اسم الثلة الشعرية الشهيرة، "لا بلياد". وبالفعل، مجموعة شيفران ستشارك في ما يشبه نهضة أدبية فرنسية بعد الحرب العالمية الأولى، أو بالأحرى ستشكل ما يشبه رمزاً من رموزها. فبعد ما يقارب عشر سنوات تقريباً من نشر الآداب الروسية مترجمة إلى اللغة الفرنسية، اشترت "دار غاليمار" هذه المجموعة في حين كانت متجهة الى الإفلاس.

فعلياً، ثمة من كان له دور في نقل "لا بلياد" إلى "غاليمار"، وهو أندريه جيد، الذي من المعروف انه ارتبط بصداقة متينة للغاية مع شيفران، بحيث أنه، ومن باب مساعدته على تجنب الإفلاس، اقنع صاحب دار "غاليمار" بأن يشتري مجموعته. هذه الصداقة، ستأخذ لاحقاً منحى مختلفاً. فبعدما صار "لا بلياد" جزءًا من "غاليمار"، صار شيفران ملحقاً بهذه الدار، التي أقصته بعد رجوعه من الحرب مصاباً بمرض رئوي. بالطبع، صداقة جيد لن تترك أثرها في هذا القرار، لا سيما أنه لا ينم عن الدار وحدها، بل عن متغير في كل فرنسا، أي القوانين المعادية للسامية التي وضعها نظام فيشي. فقد تلقى شيفران قرار التخلي عن خدماته من الدار، وخلال ذلك، كان يتهيأ للهرب من باريس إلى مارسيليا من دون أن يفضي هذا إلى أن يكون في مأمن من ملاحقاته. بالتالي، يذهب، وبمساعدة مالية هذه المرة من جيد، إلى الولايات المتحدة الأميركية.

يحيل آموس، الرسائل المتبادلة بين شيفران واصدقائه في فرنسا، إلى المرارة التي تحتويها، وإلى اسلوبها، التي يجعلها قريبة من كونها تنتمي إلى أدب، يمكن وصفه بأدب الخسارة، أو ما بعدها. فشيفران اقتُلع من كل شيء بناه في باريس، ليس "لا بلياد" فقط، إنما منزله وأسرته، بالإضافة إلى كل مجتمعه، فضلاً عن كتبه وأرشيفه. فعلياً، الشيء الوحيد الذي حمله شيفران معه إلى الولايات المتحدة الأميركية هو مرضه الرئوي اياه، الذي سكن جسده زمن التحاقه بالجيش الفرنسي، وهذا، قبل أن يبدأ هذا الجيش نفسه بملاحقته. مع هذا المرض المستعصي، سيعيش شيفران كل أيامه، كما لو أنه تركة فترته الباريسية، بحيث يرجعه إليها قبل أن يشعره بخلاصتها، بما هي عنوان للألم.

لكن، رغم كل هذا، سيصر شيفران على تمسكه بعشقه الأول، أي النشر، بحيث سيعود ويقلع في مشروع جديد في الولايات المتحدة الأميركية. فبرفقة كورت وهيلين وولف، سيطلق دار "بانتيون بووكس"، التي ستبدأ نشر الأدب والفلسفة الفرنسيَين باللغة الإنكليزية، كما أنها ستكمل مشروع "لا بلياد" حيال الأدب الروسي أيضاً. بالتأكيد، هذه التجربة ستخفف من مرارة شيفران، لكنها لن تزيل كل ما قاساه قبل هربه متخفياً في الباخرة، أو بعد ذلك. ففي نهاية حياته، لم تكن له ذاكرة سوى ذاكرة اقتلاعه. 

(*) جاك شيفران، ناشر في المنفى، دار seuil