دروس الطيونة

رشا الأطرش
الجمعة   2021/10/15
المعركة التي لا تقتلك.. تعلّمك (غيتي)
كثيرة الاستنتاجات والخلاصات الجديدة، القديمة – المتجددة، التي عرفناها عن أنفسنا والبلد والحياة والعالم والكَون، إثر معركة الطيونة... اكتشفنا، أولاً، أن المتظاهر السلمي يمكنه أن يحمل السلاح. لا تَعارُض. طالما أن سرديته تقول أنه لم يبدأ بإطلاق النار. كما أن القنّاص يمكن أن ينتمي إلى دُعاة الدولة.

وفهمنا أن المقاتل يمكن أن يذهب إلى المعركة، متقيداً بإجراءت الكورونا، فيرتدي الكمّامة ليحمي نفسه وأخوته، ليحفظ جسده من أجل مجد ساحة القتال، ويعود إلى عائلته بلا مخاطر مجتلبة من الشارع. نرى في نشرات الأخبار الدولية، جنوداً في جيوش نظامية وحرس شرف يرتدون الكمّامات. هؤلاء يتقاضون رواتب ويتبعون مؤسسات رسمية وطنية، وسلامتهم من سلامة الوطن وأبنائه. وهذا المقاتل نظاميّ، نظامي جداً، من صلب النظام اللبناني.


(الكمّامة - غيتي)

وتعلمنا أن مفهوم "الكمين"، لا يعني أن يَكمُن متربّصٌ لغافلٍ ساهٍ. "الكمين" يعني أن يبادر مسلّح إلى إطلاق النار على جماعة يقتحمون منطقته. منطقة من لون طائفي معروف ومغاير وخصم، في بلد منقسم طائفياً ونظامه طائفي وخطابه مسعور بالطوائف. فـ"تُفاجأ" الجماعة الداخلة بصيحات "صهيوني"، لا سيما بعد أيام طِوال من التجييش والتعبئة والتحريض، وغداة انتشار فيديوهات رفع الصلبان في المنطقة المُقتحَمة بهتافات "شيعة شيعة". المفاجأة عميقة وصادِمة وجارحة. والمُنادِي بتنحية واحد من أكفأ قضاة لبنان عن التحقيق، في واحدة من أقسى الجرائم، يريد العدالة.

والعدالة يمكنها أن تكون عنوان حرب أهلية. العدالة التي يريدها الجميع، كما تفترض البداهة والسّوية، تفرّق المواطنين عن مواطنيهم، تجعلهم يقتتلون. العدالة تصبح عنواناً مذهبياً، لأن المظلومية كذلك، والتاريخ لعبة تاريخية.

كما يمكن لوزارة الداخلية أن تُدار بطيبة القلب، وكذلك الأجهزة الأمنية التابعة لها. ويمكن ألا تصل للأجهزة، وتالياً للوزير، ما رآه اللبنانيون في السوشال ميديا وقرأوه في صحف الأمر الواقع، وعرفوه قبل ليلة وليلتين من معركة عين الرمانة - الطيونة. يمكن لبعض إدارات المدارس التي أقفلت أبوابها أن تكون أكثر حنكة من الداخلية. وحين يقول المنظمون أنها ستكون تظاهرة "نخبة"، فما الداعي إلى التشكيك؟ يحصل أن تُسيّر الداخلية وقواها بحُسن النوايا الذي لا يلغي التجربة، وتجربة العامين الأخيرين انحصرت في حجارة محتجّي 17 تشرين، وكانت باهرة. أما وقد وقعت الوقيعة، فلا بد لوزير أن يطلب تدخل السياسيين. المنطق والبروتوكول يشهدان بذلك. أما الجيش، فيمكن لمواطنيه أن يخافوا عليه أكثر من خوفهم على أنفسهم وأرزاقهم وأولادهم، فهو من أولادهم وأخوتهم أيضاً. يخشون عليه من الطوائف ومما قد يبدو انحيازاً لطرف، من عودة تاريخ انقساماته، ومن أن تكون الأزمة الاقتصادية أقوى من العقيدة. يحدث أن يخشى الناس من مصابهم، على عسكرييهم المتمركزين عند مفارق الطرق، على المؤسسة الضامنة الأخيرة في البلد، فيلوحون لهم من بعيد، وتُردّ التلويحات بحبّ، بينما يخلي جنود، أطفالاً وعجائز، ويقوم عناصر الدفاع المدني بواجباتهم الإسعافية، فنفهم أن الشكر الدولتي الحقيقي، يكون بالكلمات والعواطف، دون القوانين التي تنصفهم في تثبيتهم ورواتبهم. فهمنا أن الحب يكفي. 

وأدركنا، أمس، أن خطوط التماس ليست فقط مظاهر طارئة أو مؤقتة أو مرهونة بمتاريس الحرب، كلاسيكية كانت، أم حرب عصابات وشوارع، في بلد تحكمه العصابات بالمناصب الرسمية، ويلوّح أهلوه بشارعهم في مقابل شارع أهله "الآخرين". خطوط التماس يمكنها أيضاً أن تكون متحركة ومتغيرة، كفكرة دولوز عن الاختلاف عبر التكرار. خطوط التماس ليست آثار سكاكين في جسد المدينة تُبَلسِمُها مَراهم السِّلم، ولو سلّمنا بالسِّلم بعد انكشاف الكذبة. بل هي الخريطة كلها. خريطة سحرية، كتلك التي تظهر في أحد أفلام "هاري بوتر"، خطوطها تبرز وتنمحي من تلقائها. لوحة أشبه بشاشات الألعاب الالكترونية، إشاراتها الضوئية تضبطها حركات اللاعبين وخططهم. وهي، في ذلك، "ذكية"، متفاعلة، متطوّرة ذاتياً، كالروبوتات المُقترِبة من العقول البشرية، المشاعر والعفويات الإنسانية.

ومَن لا يتابع التحولات الكافكاوية لخريطة التماس، الساخنة أبداً مهما برَدت، لن يستطيع العيش في لبنان. لن يعرف أين يسكن، وإلى أي مدرسة يرسل أولاده. وإن صادف شقة "لقطة" في منطقة ملغزة، ملتبسة أو مختلطة، فعليه أن يستفسر من أولي الأمر والمعرفة، وإلا قضى. ثم، بعد ذلك، عليه أن يفكّر، هل هو بالهوية، دوناً عن بطاقة الهوية، سنّي أم شيعي أم مسيحي (أي مسيحي؟) أم درزي؟ وهل يهنأ له العيش مع نقاء أبناء جِلدته، مُشاركيه في خانات النفوس ولوائح الشطب؟ وإن كان علمانياً، فهل هو آمِن في مناطق مختلطة؟ أم أن الاختلاط في حد ذاته فتيل تفجير؟ ورأس بيروت، مثلاً، كيف يحكمها السوريون القوميون الاجتماعيون؟

... يبدو أن موضوع خطوط التماس سيكون الفقرة التعليمية الأطول في هذه التجربة، وهذا النص أيضاً. يجوز. فهو نواة الحكاية ولبّها وتكثيفها، وهو السّور المضروب حول اتساعها وضيقها، حديقتها الأمامية المُلَغَّمة، وفناؤها الخلفي المُظلم، ومَطمَرها. عين الرمانة في العام 1975، الشياح-عين الرمانة كخط تماس الكحول والسهر. ثم الطريق الجديدة والمزرعة وقصقص وبربور، في نزاعات سنّية شيعية. خط على حدود قرية شويا الدرزية في الجنوب، وعلى حدود عاليه في الجبل منذ 7 أيار 2008. وخط في صيدا، وخط في الكحالة وفي البقاع. خط موازٍ لأوتوستراد خلدة، حيث رُفعت بالحديد والنار صُورٌ احتفالية بالمُدان في اغتيال رفيق الحريري، سليم عياش، وعاد عرب خلدة لينفذوا عملية انتقامية بعد عام. وتعود عين الرمانة اليوم خط تماس التحقيق في تفجير المرفأ. خط كربلائي هنا، وصليبي هناك، وفاشيّ في شارع الحمراء، وبقوانين تلك الأزمنة، وبمفاهيم تلك الأحقيات.

تفكّر بهذا كله، وتتعلّم وتزداد حكمة، فيما تنظر إلى أطفال المدارس مختبئين تحت طاولات دراستهم، لائذين في الممرات بين صفوفهم، باكين. تفكّر في أهلهم الذين سرّحوا شعرهم ووضبوا عُلب غدائهم وأوصلوهم إلى معلماتهم ومعلميهم، ذاك الصباح، استعداداً ليوم عادي، والعادي استثناء في حيوات المحكومون باللعنة.