"على الرغم من الظروف الحالكة"

روجيه عوطة
الأربعاء   2021/10/13
بريشة هوغيت كالان
ثمة شعور تنتجه قراءة خبر لبناني، يفيد بإطلاق نشاط ثقافي: "رغم كل ما يمر به البلد من ظروف حالكة...". هذا الشعور هو فعلياً ليس شعوراً واحداً، انما هو مزيج من التأسف والضجر، وبينهما "ديجا فو" (déjà vu)، يتعدى تركيبة الخبر اياه ليصيب تعليقه عليه. فما معنى أن يتقدم نشاط ما، وبعد كل ما حصل من انهيار، بجملة تبدأ بـ"رغم كذا"؟

بداية، ومن ناحية الـ"ديجا فو"، هناك تمسك بنمط عرض وإسناد وتسويغ، لطالما اعتُمد حيال النشاطات الثقافية، بحيث يجعل من "الظروف الحالكة" موقف وجودها، اي أنه الموقف الذي لا تنوجد سوى فيه. وهذا، "على الرغم منه"، التي تشير، وكجملة، إلى أنه ليس مضاداً لها، إنما لا تلائمه. فتلك "الظروف الحالكة" ليست موائمة لأي نشاط. لكن، وبما أن هذا النشاط قد وجد فيها، فذلك يؤدي إلى الاستنتاج انه يتكيف معها، ولا يخالفها. فعلياً، الجملة اياها لا تنطوي على فعل مخالف، إنما على فعل تكيّفي: النشاط ينطلق على الرغم من "الظروف"، وليس رغماً عنها. بالتالي، "على الرغم" هذه تدل على أن النشاط استطاع ان يجد مطرحه في "الظروف"، أن يجعلها موقفاً لوجوده.

بالطبع، الاعتراض العاجل هو الآتي: في حال انه يجعلها كذلك، ألا يعني ذلك انه يكيفها معه أكثر مما يتكيف معها؟ بعيداً من "دونكشوتية" الاعتقاد بأن نشاطاً ما قد يكيف الانهيار، فيمكن القول أن جعله "الظروف" موقف وجوده، وباعتباره تكييفاً لها، هو بمثابة-وهنا يبدأ الانتقال من الـ"ديجا فو" إلى التأسف والضجر- ارتفاع عليها، بمعنى أن النشاط، ولكي ينوجد، ففوقها، حيث اعتاد، منذ نهاية الحرب الاهلية أقله، أن يحضر: تكييفها يعني الاستثمار فيها. كما لو أنه، ومن دونها، لا يكون، وكما لو أنها، وكلما تفاقمت، تكون كموقف وجوده أكثر فأكثر. هل التكييف مقاومة؟ مقاومة شيء ما، تبغي ألا يعود ويحصل مرة أخرى. أما تكييفه، فعكس ذلك، اي يبغي الارتفاع عليه كلما حصل، وإن لم يحصل، فهذه مشكلة.

فعلياً، المؤسف ان الانهيار الذي حدث لم يُطح جملة "على الرغم"، ولم يغيرها حتى. وهذا، في حد ذاته، يحمل علامة على كون صياغتها، الركيكة بديهياً، ليست سوى من صياغات الانهيار. انها جملته، أو جملة وضعه، جملة إنتاجه، وبالمزيد من المبالغة، يمكن الإضافة انها جملة نظامه. فـ"على الرغم من الظروف الحالكة"، ثمة نشاط، مثلما كان هناك قبله زرعٌ في الشرفة، وحكومة، ومجموع من التافهين، واصلاحات، ووعود، وتهديدات، ومعها السباقات الانتخابية، الخ. فثمة دوماً شيء ما "على الرغم من الظروف الحالكة"، وهو ليس سوى ما يقول ان "هذه الظروف" من الممكن أن تكون موقف وجود. وفي هذا القول، لا استفهام عن أي مقاومة، لكن تبشير بما لم يقع بعد من الانهيار، تبشير بأن الاقامة في الثقب الأسود هي الملاذ الآمن.

لكن، بعد المؤسف، هناك المضجر، وما الذي يحمل إلى الضجر في هذا كله؟ قد يكون تكرار جملة "على الرغم" نفسها، لكن، في الواقع، هو ليس كذلك، بل النبرة التي تطلق النشاط ذاته بصحبة هذه الجملة. هي نبرة ادعاء، لكن الأهم أنها نبرة تريد أن تقنع بأن ذلك النشاط هو فعلياً نشاط-حدث، وهذا، لأنه سينعقد في قلب الانهيار. فتبدو هذه النبرة، نبرة اقناع بكون الشمس تشرق من الغرب، وهذا، لأن الوقت هو وقت ليل. بيد أن ذلك ليس مردّ إضجارها فقط، إنما مردّه أيضاً أن، وفي هذا الوقت بالتحديد، يصير انتظار إشراق الشمس من الغرب تماماً كانتظاره من الشرق، يصير كل حديث مجرد تقاسم لماء ميت، وهواء ميت، وطاقة ميتة، وعيش ميت. وعندها، يغدو الضجر، وليس التأسف حتى، هو الفعل الحيوي الوحيد.