عودة الثقافة إلى رشدها

روجيه عوطة
الخميس   2021/01/28
بانكسي رسم على جدران حمّامه في ظل الحجر وكورونا
وضع الثقافة في إثر الحجز الصحي، في باريس أو في أي مكان "مكَورن"، ليس بخير البتة، إذ إنها تتحمل، وبما هي ارجاء ومؤسسات إنتاج، وزر الحجز، وتدفع ثمنه خسارة اقتصادية تلو الخسارة. لكن وضعها هذا ليس ما أبغي التوقف عنده، إنما ما بدا في نتيجته، اي موضع الثقافة حيال الدولة، بحيث أنها على هامشها، بمعنى أنها لا تنظر إليها كما لو أنها أمر أساس، بل ثانوي، وثانوي للغاية. هكذا، تدعم هذه الدولة قطاعات كثيرة، أما حين تصل إلى قطاع الثقافة، فإنها تقفز عنه، أو تعِدُه ولا تفي. على أن وجود الثقافة في موضعها ليس مباغتاً، فهي كانت، وطوال الوقت، فيه، لكن المفاجأة في الوهم الكبير الذي كانت قد أقامت فيه. إذ إنها لطالما ظنت ان صوتها، وكقطاع انتاجي، مسموع، أي ان مطالبها غالباً ما تجد طريقها إلى التحقق رسمياً. يمكن القول إن ظنها هذا سرعان ما برز، وخلال وقت الكورونا، كمجرد وهم. فهي، في التراتبية بين القطاعات، لا محل لها فيها، بل تبدو كأنها أول ما يُضحى به، أو أول ما يُستغنى عنه.


بالتالي، يمكن القول إن الثقافة حالياً تكتشف موضعها إياه، وبهذا، هي تتخفف من وهمها ذاك، أو بالأحرى يتساقط عليها لتكون من دونه. ثقافة بلا وهم؟ هذا شيء مفجع للحظة، لكنه ضروري، بحيث أنه يدعى، وبعبارة واحدة: عودة الثقافة إلى رشدها. ورشدها هذا ليس نفسه الرشد الذي أفضى بها ذات يوم إلى الثقة العمياء في الدولة، إنما رشدها الذي يجعلها، وعلى الأرجح، تدرك أن لا طريق لها سوى المقاومة، مقاومة وضعها في إثر الحجز، ومقاومة موضعها الهامشي حيال الدولة. لكن كيف تقاومه بلا أن تعول على هذه الدولة؟ هناك طرح تحدد لها ذات مرة، إلا إن صار في خبر كان، طرح لم ينتبه صحبه أن القرن التاسع عشر انتهى. هذا الطرح يفيد بهذا: أن تحب الثقافة هامشها. بطريقة أخرى، لا بد للثقافة، وبحسبه، أن تبقى في موضعها، أن تطعن فيه، أن تأخذ كل قيمتها منه. لكن هذا الطرح، الذي جربته الثقافة ذات حقبة، انتهى إلى تنصل من مسؤولية ودور لازمَين لها. كما أن هذا الطرح، أو بالأحرى حصيلته، شارك في حملها إلى وهمها نفسه. ففي حين أن بقاءها في الهامش لم يؤد سوى إلى ابتعادها عن وجودها، اندفعت، وكردّ فعل عليه، إلى حب المتن، إلى الإقتناع بأنها منه. فعلياً، التنصل هو الوجه الثاني لهذا الاقتناع، الذي ينطوي على وهمها. فأن تبقى الثقافة في هامشها أو تعشق المتن، ففي الحالتين، هي ليست في محلها، وفي الحالتين، لا تضاهي نفسها. فما الثقافة إن لم تخلق محلها أبعد من خرافتي الهامش والمتن؟!

وهذا ما يعني ان تتجنب المكوث في المكانين، وأن تؤمن بكونها، وبالتوازي مع كونها إنتاجاً، هي شيء آخر. أو بالأحرى، ولكي تكون إنتاجاً، لا بد أن تكون شيئاً آخر، يمكن اختصاره هكذا: إنها محل للإبداع بما هو تعبير عن ضرورة. تمسُّك الثقافة بكونها كذلك، يعفيها من التنصل حباً للهامش، أو من الاقتناع عشقاً للمتن، أو من تقهقرها ومن رمي الدولة لها إلى مرتبة أقل من ثانوية. وهذا، قبل أن تعتقد برميها هذا، بحجة انها ليست منتجة كغيرها من القطاعات. مقاومة الثقافة تمر بكونها محلاً، بمعزل عن مرتبتها، وعن نظرة الدولة لها، محل لا يتقيد بهامش ولا بمتن، مثلما لا يتقيد، وكقطاع، بمقارنته بغيره.

فعلياً، الثقافة، وفي موضعها، الذي تركتها الدولة والحجز فيه، هي على سبيل مقاومتها من خلال تخطيها وهمها، وقبله خرافتاه، للتمسك بكونها محلاً لازماً. على انها، حتى لو لم تتمسك بهذا، فهي، ومن موضعها ذاك أيضاً، تبدو أنها كانت ولا تزال تستحق التحية!