ربيع السنوات العشر: ماذا تعلّمنا؟

رشا الأطرش
الثلاثاء   2021/01/26
عشر سنوات على "ثورة يناير" المصرية. في مثل هذه الأيام، قبل عقد، كنا صاعدين في النشوة. الثورة، حالة تتبلور، حلم يمسي صوراً مباشرة في التلفزيونات وهتافات ابنة ساعتها وزحمة خلقت معنى عربياً جديداً لمواقع التواصل الاجتماعي. ما كان خيالاً يوصم بالشطط، صار له، في مثل هذه الأيام، إسم: الربيع العربي. كان زين العابدين بن علي قد هرب، ورَجعُ صدى الرجل الصارخ بالخبر لا يزال يتردد في آذاننا، لتتوالى مفاعيل الدومينو، في اليمن وليبيا وسوريا، الأردن والبحرين والجزائر وجيبوتي، السودان والعراق وفلسطين ولبنان.. بعض تلك الثورات استمر وحقق إنجازات و/أو استجرّ ويلات وما زال يغلي بتناقضاته. البعض الآخر فشل واندثر. والبعض الأكثر إيلاماً تحوّل حروباً لا تني سوريا تحتل صدارتها، ولبنان قعرها.

منذ سبع سنوات، على الأقل، نتخبط في مشاعرنا إزاء استعادة التواريخ بالأيام والساعات. هل هي ذكرى، نحييها كشكل من أشكال المكابرة على إعلان موتها؟ أم نبكيها، كأنها قدَرنا المحتوم والمختوم باليأس من أي تغيير إلى الأفضل؟ هل هي تاريخ ما زال يُصنع؟ أم مشاريع تأسيسية بأثمان باهظة، وإن تفاوتت، ولنا أن نربّت بيدنا على كتفنا تقديراً لما أُنجز، قبل أن نصفع خدّنا بكفّنا علّنا نتذكّر ما تساقط منا في الطريق فنعود لنلمّه أو نهمّ بتركيب البدائل المؤاتية لمرحلتها؟

"الشعب يريد إسقاط النظام"، قالها التونسيون، وردّدناها. "عيش، حرية، عدالة اجتماعية"، مصرية. "ثورة الكرامة" سورية، و"إرحل" للجميع... في ميادينها، ولدت تلك الشعارات لتمسي كائنات حيّة، بل واتخذت مساراتها وتحولاتها، وعبرت حدوداً وطوائف وإثنيات. وكل حيّ يموت، لكن أحداً لا يسعه الجزم بالموت فناءً أخيراً. مثل هذه الصرخات يعيش، إذا تحوّل إلى رزمة قِيم، عقلانية عملانية، لا إنشائية مِرآتية للأنظمة المستهدفة بها. مثل هذه الصرخات، قد يكتسب حياة ثانية، أو حتى حيوات، كما في ألعاب الفيديو القتالية، إذا قُدّر له تفنيد في برامج سياسية، وإن وُجدت تلك البرامج، تحوّّل البحث في اتجاه قوى تكون حواملها. هذه محاولات خيضت فعلاً، لكنها أُحبطت أو اختُرقت أو سقط أصحابها في التعب أو الاعتقال أو الموت. وبعد؟ السيسي المصري، والأسد السوري، وأشباههما في أراضي برزخ الربيع..

ومع ذلك، يضبط واحدنا نفسه متلبّساً بالتفكير، ولو بشكل مناسباتي قهري: حينما ملأت الجماهير الشوارع والساحات، من القاهرة إلى بيروت، ومن حمص وحلب ودرعا وإدلب إلى الخرطوم والجزائر العاصمة وصنعاء.. قلنا، وشَعرنا، بأننا شعب واحد، شعب لبناني واحد، وسوري واحد، ومصري واحد،.. بطوائفنا وإثنياتنا وطبقاتنا الاجتماعية. وطوال السنوات العشر الماضية، واظبنا على إنعاش متقطّع للحكاية الراقدة، وأصرّ بعضنا على تسمية سرير احتضارها "مؤامرة"، فيما بعضنا الآخر رأى "المؤامرة" في يقظاتها الموسمية نفسها، مهما كانت مفرحة وآنيّة. منذ سنة وبضعة أشهر، ضخّ اللبنانيون في أسطورتهم أوكسيجيناً طازجاً وتعانقوا في الطرق، كنسوا الأرض وزينوا الجدران ورقصوا وغنوا واحتفلوا بأنفسهم، شأنهم شأن المصريين من قبلهم، والسوريين حتى خريف العام 2011. واليوم، ثمة من يعضّ لسانه قبل نطقها: شعب واحد؟ حقاً؟

الوحيدة التي تحتفل الآن بثورتها على أنها واقع، لها أمس وحاضر وغد، هي تونس. هل صدفة أن التونسيين ليسوا متعددي الطوائف؟ أن النزاع الداخلي، إن اتخذ سمة إسلاميين سلفيين أو جهاديين أو أخوان من جهة، وعلمانية ويسار يتأرجحان بين الاعتدال والشراسة من جهة ثانية، حُلّ بسلاسة وسِلمية نسبية؟ أن الوعي المدني، الديموقراطي (بتصرّف)، المساواتي (لا سيما جندرياً) أرساه مستبدّ مستنير اسمه الحبيب بو رقيبة؟ وهذه كلها، معطوفة على أوضاع اقتصادية وأمنية ضاغطة، شكلت نواة وعي "ثورة الياسمين"؟ هل كان ديكتاتورهم أصلاً "لايت" بالمقارنة مع جهتنا من المشرق؟ وجيشهم؟ هل لأنهم كانوا الحبة الأولى في العنقود، ولو صمَد بن علي، ليرى بشار الأسد صامداً حتى الآن وأكثر، لقوّى قلبه في القمع واستمال الجيش بصفقة ما، وما هرب؟

وعضّة اللسان تصحّ أيضاً في منطوق الجيوش: "الجيش والشعب إيد واحدة" باللهجة المصرية، أو "الجيش والشعب خاوة" بالجزائرية، أو "الجيش خط أحمر" باللبنانية، بعدما قُدّمت الورود الثورية لجنود وضباط. يصح التفكير في كلمات من قبيل: انقلاب، سلطة، طموح، البيادة/الجزمة/الرانجر، قوانين الطوارئ، محكمة عسكرية، إضعاف عزيمة الأمة، فحوص العذرية، فحوص المثلية الجنسية، واحترام المقامات الرسمية العليا، ثقافة أكل رأس الحيّة، عدو أو صديق بلا ثالث لهما، وتمويل من الخارج لضبط الداخل،...

أما في الإعلام، فحين يبدأ المتن بتبنّي خطاب الهامش، ولو تكاثر الهامش في تيار عريض، فربما هنا يجب أن نقلق قليلاً. لا سيما حين لا نرى إلا رأس السلطة متدحرجاً على الأرض، وحين نفهم قطعة "البازل" الممنوع المسّ بها، حاكم مصرف مركزي هنا، أو رجل دين/زعيم هناك. وربما من المفيد أن نتذكر أن أسلحة "الثورة" ليست متاحة للثورة وحدها. الشبكات الاجتماعية والمنصات "المستقلة" وحتى هيئات المجتمع المدني، متاع الثوار والمضادّين على حد سواء، والمعارك تزداد ضراوة وتعقيداً. أين تنتهي حرية التعبير ويبدأ لعب الأجهزة بمفردات الحريات نفسها؟ أي الجيوش الإلكترونية أقوى؟ من المُخترِق، ومن المُختَرَق؟

اليوم، ذَكَّر الفايسبوك معظمَنا باليوفوريا المصرية الجَماعية التي عشناها خلف شاشاتنا، وعبر حساباتنا الاجتماعية التي تحولت قنوات مشاركة لا تنام، فضحكنا وبكينا وقتلنا إتيكيت اللغة: "مصر يمّة يا بهية"..."أنا لو عشقك متغيَّر، كان قلبي زمانو تغيَّر، وحياتك لأفضَل أغيَّر فيكي لحد ما ترضي عليه".. "في كل شارع في بلادي، صوت الحرية بينادي"... "إثبت مكانك، هنا عنوانك، الخوف بيخاف منك، يا تموت وانت واقف، يا تعيش وانت راكع.. إبعد عنهم وسيب الحيطة عليهم تميل". كانت حقيقة، لحظات أكثر من حقيقية، لكن الأمل نُكِب بالزّيف.