في التفكير المؤامراتي

روجيه عوطة
الأحد   2021/01/24
ليس التفكير المؤامراتي الذي ذاع حول الكورونا، ومن بعده لقاحه، بالجديد.
ليس التفكير المؤامراتي الذي ذاع حول الكورونا، ومن بعده لقاحه، بالجديد. لقد كان هذا التفكير حاضراً على الدوام، ينحسر مرات، ويتمدد مرات أخرى، ولكن، وفي كل الأحوال، لا يختفي البتة. وهو قد صار، منذ فترة ليست ببعيدة، فترة توّجها دونالد ترامب، أو بالأحرى الترامبية، في المتناول، في متناول الأيدي، أو الرؤوس، او في متناول كل الأعضاء التي تمارس التفكير – من قبيل الأقدام بحسب الفيلسوف ميشيل سير! ولم يصبح على هذا الوضع في مكان دون غيره، بل إنه غدا اختصاصاً عالمياً. ففي إثره، تبددت خرافة التخلف، توقفت عن الفرز، والرفع، والوصف، تبددتْ لتصير موقفاً كونياً، ليس هناك أفضل من المؤامرات.


وفي مقابل التفكير المؤامراتي، هناك التفكير الانتي-مؤامراتي، الذي يريد مكافحته، خلعه من مطارحه، رميه في البحر، ذره في الهواء. اذ يحاول، وباستمرار، أن يلقي القبض عليه، أن يقتفي أثره، أن يشير اليه، أن يفضحه. وخلال كل هذا، يقدم على الأمرين. الأول، احتقاره، الضحك عليه، جعله مسخرة. والثاني، الاعلاء، وكالعادة، من قيمة العقل أمامه بعد التأكيد على كونه لا يمتلكه. فوحده التفكير الأنتي-مؤامراتي يتمتع بهذا العقل، أما، غيره، عدوه، فمن دونه، هو غبي، واحمق، ومهلوس، وتافه، ولا بد من ابعاده، والاكثار من ذلك.


بين التفكير الذي يحيك مؤامرة تفيد بأن الكورونا هو مرض اخترعته الصين للسيطرة على البشرية من جهة، والتفكير الذي يزدريه معلناً ان الكورونا ليس سوى الكورونا، وقد تمكن عقله وخطبه من صده كأنه لم يكن من جهة أخرى، لا يبدو الاختيار يسيراً. في الواقع، ما يحض على التنبه إليه في الصلة بين التفكيرين هو إستناد الثاني إلى الازدراء حيال الاول لكي يعلن تغلبه عليه. لماذا يزدريه؟ على الأرجح لأنه يحسب انه ليس بتفكير ومع ذلك يعلن نفسه كذلك.

ولكن، ما حاجته الى الازدراء في هذا السياق، أي في سياق نفي سمة التفكير عنه؟ يزدريه لأنه يهدده، وتهديده هذا، ومع أنه قد يتعلّق بكونه قد يذيع على الرغم من كونه ليس بتفكير، فهو يرتبط بشيء معين قبل ذلك. التفكير المؤامراتي يهدد التفكير الانتي-مؤامراتي لانه يبين له ما ينطوي عليه. بطريقة اخرى، هو يبين له ما يفر منه، ما يسعى إلى تجنبه، اي لاقدرته على أن يكون تفكيراً كاملاً، طاغياً، صلباً، لا فيه ضعف، ولا عوز. ولا يتوقف تهديده له عند هذا الحد، ولكنه، يتعداه إلى كونه يبين كيفية صده لهذا الضعف ولهذا العوز، اي بالارادة المؤامراتية على درجاتها. هذه الارادة، وقبلها ريبتها، لا توجد في التفكير المؤامراتي فحسب، بل يكاد كل تفكير يتسم ببعض من آثارها، خفيفة كانت أو لا. في هذه الناحية، أعمم: العقلانية تحمل، وفي صميمها، من المؤامراتية. وعندما أصوب التعميم أو أخففه: العقلانية، وعلى الاقل، تبدأ بالمؤامراتية. فالتعقلن، وليس في صعيد المعارف حتى، إنما في صعيد القرارات الفردية، فيه ضروب من المؤامراتية أيضاً.

على هذا المنوال، التفكير الانتي-مؤامراتي، وحين يزدري التفكير المؤامراتي، فهو يريد أن يتلافى ما يبينه له، أن يقاومه. وهذا، في حين ان التفكير المؤامراتي لا يتوقف عن التماهي معه، عن التطلع اليه، عن التوجه نحوه. إذ يهرع الى التمثل به، إلى التزود بالأدلة والوئائق والحجج والأرقام والقصص من أجل تكريس حقيقته، لكي يسلك، وعلى شاكلته، الاستدلال أو الاستقراء أو الاستنباط. ولكن، حبه للعقلانية، لأن يكون تفكيرها، لا يجعله من دون مؤامرتيته، على العكس، هو لا يرميها جانباً، يتقدم بها عارياً من دون ثوب الفرضية، أو الافتراض. بهذا، يبدو أنه لا يستطيع الاقلاع منها، ولكنه، وبهذا أيضا، يبدو أنه يقرن العقلانية بمصدرها. فهذا التفكير، وحين يجد ان العقلانية تنم عن المؤامرتية، يحافظ على استمرار الأولى بتطويل اقترانها بالثانية. بهذه الطريقة، هو حريص على أن يكون عقلانياً للغاية!

فعلياً، ثمة شيء تغير في العلاقة بين التفكيرين، وهذا، تحديداً، بعد أن جرت صناعة لقاح الكورونا. ففي حال كان الثاني موصوفاً بكونه تفكير الجماهير، فالنخب نفسها صارت عليه حيال اللقاح إياه بالتساؤل عن فعاليته، آثاره، وبالإشارة إلى أنه "خدعة"، لن توقف الفيروس ولن تمنعه من مواصلة انتشاره. على هذا الاساس، النخب، التي تصون العقلانية عبر تفكيرها، وفي لحظة ما، في لحظة ضياع أمام ضربات الكورونا، ما كان منها سوى أن انتقلت الى المؤامرتية. بالتأكيد، هذا مرده عودة العقلانية إلى مصدرها، إلى المصدر الذي اقلعت منه، بفعل اصطدامها بعجزها أمام الفيروس. ولكنه، يتعلق أيضاً بكون التفكير الذي لطالما إزدرى المؤامراتية لانه، وعلى عكسها، يمتلك العقلانية، لم يجد في إثر ذاك الاصطدام سوى هذه المؤامرتية كمخبأ له. فالتفكير الانتي-مؤامراتي، وفي وقت صدمته، لم يعود سوى إلى الذي يزدريه، إلى التفكير المؤامراتي، وبهذا، أبدى ازدراءه على حاله، اي مجرد ردة فعل على لقائه بما هو، محاولة تعيسة لتلافي ذاته.

أريد ان أنهي هذا التعليق كما أنهيت تعليقي على كتاب بيار بايار. فكما ان رفض الوقائع المزيفة هو رفض للسرد، فكذلك، رفض التفكير المؤامراتي هو رفض للتفكير باعتباره تعقلناً. "التأكد" من تلك الوقائع، او مكافحة هذا التفكير، بحجة العقلانية، أكانت السردية أو غيرها، مجرد هروب إلى الأمام، مجرد إنتاج لعقلانية هشة، تعاني من اكتئابية الانعزال. فتزدري وتزدري وتزدري قبل ان تصير ما تزدريه... تصير ما كانت عليه، وتصير ما رجعت اليه.