محنة العقل في الكنيسة الأرثوذكسيّة

أسعد قطّان
الأحد   2021/01/17
الساحة الحمراء،
من ضفاف الفولغا إلى شواطئ البوسفور تمتدّ محنة العقل في الكنيسة الأرثوذكسيّة.
قبل يومين اتّصل بي أحد الأصدقاء، فتداولنا قليلاً في شؤون الكنيسة الصربيّة. لم يمضِ زمان طويل على وفاة البطريرك إيريناوس بفيروس كورونا. ولكنّ من يمسك بخيوط هذه الكنيسة اليوم، وفي انتظار انتخاب بطريرك جديد، هو مطران آخر يحمل الإسم ذاته: إيريناي (بولوفيتش). عمل هذا على طرد عدد من الأساتذة، بينهم مطارنة وكهنة، من كلّيّة اللاهوت في بلغراد بحجّة أنّهم يروّجون لأفكار تتنافى مع تراث الكنيسة الأرثوذكسيّة. كلّيّة اللاهوت في بلغراد جزء من جامعة بلغراد الرسميّة. بخلاف النموذج الروسيّ الذي أخرج أكاديميّات اللاهوت من الجامعة وحوّلها إلى صروح علميّة قائمة في ذاتها، يتبع النظام السائد في بلاد اليونان وصربيا ورومانيا النموذج الألمانيّ، الذي يعتبر أنّ كلّيّة اللاهوت يجب أن تكون جزءاً لا يتجزّأ من الجامعة وفي حوار خلاّق مع العلوم الأخرى، ولا سيّما الإنسانيّات. في بلغراد جيل واعد من اللاهوتيّين الجدد ذوي تدريب منهجيّ ممتاز. بعضهم تلقّاه في اليونان وبعضهم في إيطاليا أو ألمانيا أو فرنسا أو الولايات المتّحدة. في خضمّ نقاش تناول نظريّة النشوء والارتقاء وإمكان حضورها في المناهج المدرسيّة، وقّع بعض هؤلاء الأساتذة وثيقةً اعتبروا فيها أنّه ليس من وظيفة علم اللاهوت أن يبتّ في مسائل بيولوجيّة مثل نظريّة التطوّر. ومنذ ذلك اليوم وهؤلاء يتعرّضون للاضطهاد على يد إيريناي بولوفيتش، الذي نجح في التضييق عليهم وطرد بعضهم من كلّيّة اللاهوت، وذلك على مرأى من الحكومة الصربيّة الغارقة في صمت مطبق رغم أنّ كلّيّة اللاهوت واحدة من كلّيّات الجامعة الرسميّة.

يقول أحد السياسيّين الألمان إنّ روسيا تشبه شخصيّة السيّد تورتور في رواية ميخائيل إنده الشهيرة «جيم كنوبف ولوكاس سائق القطار»: حين تنظر إليه من بعيد، تبصر مارداً، ولكن ما إن تقترب منه، حتّى يصغر شيئاً فشيئاُ ثمّ تكتشف أنّك أمام إنسان عاديّ. فروسيا العظيمة لا يتجاوز ناتجها المحليّ اليوم مثيله الإيطاليّ، علماً بأنّ إيطاليا هي القوّة الاقتصاديّة الثالثة في أوروبا الموحّدة، وكانت الرابعة قبل خروج بريطانيا من المجموعة الأوروبيّة. هناك في روسيا، تبدو الكنيسة الرسميّة وكأنّها مجرّد أداة في خدمة تنفيذ فلسفة السياسة البوتينيّة حول العالم. تقف، مثلاً، إلى جانب الطاغية ألكسندر لوكاشنكو في روسيا البيضاء وتقمع المطارنة والكهنة الذين يتحمّسون للثورة «البيضاء» اللاعنفيّة التي يخوضها الناس منذ شهور في هذا البلد المنكوب في انفجار تشرنوبيل. السياسة ذاتها تتّبعها دوائر الكنيسة الروسيّة الرسميّة في أوكرانيا وجورجيا. وهي خبيرة في اضطهاد الأصوات التي تنتقدها وفي تشريد المفكّرين واللاهوتيّين الداعين إلى مساءلة الحلف الوثيق بين القيصر الجديد والمؤَسّسة الكنسيّة. هذه المُؤَسّسة تبدو اليوم متهافتةً على مباركة الشرطيّ السوفياتيّ، الذي اضطهدها طوال عقود، ما إن خلع بزّته العسكريّة وتزيّا بزيّ القيصر.


أمّا في مدينة البوسفور المكلّلة بالليل والذهب، فما تبقّى من المؤسًسة الكنسيّة هناك يبدو منكوباً بالعقليّة «العثمانيّة» والحنين إلى زمن بيزنطيّ لن يعود، ومصاباً بعدم قدرة اسطنبول أن تستعيد القسطنطينيّة أو أن تتحوّل إلى موسكو. بطريركها منذ سنوات في صراع مع نظيره الموسكوبيّ ويريد ذاته مختلفاً عنه حتّى في أدقّ الأمور وأصغرها. إنّها الآليّة السيكولوجيّة ذاتها التي سمّاها فرويد «نرجسيّة الاختلافات الصغيرة». بسبب من انتشار فيروس كورونا، كتب إلى «إخوته» البطاركة يستمزج رأيهم في كيفيّة القيام بالخدم الكنسيّة في زمن الجائحة، ولا سيّما في استخدام الملعقة التي ما زال معظم الأرثوذكس يعتمدونها في المناولة المقدّسة. طبعاً، بقيت عمليّة الاستمزاج هذه شأناُ نظريّاً لم تقابله أيّ مفاعيل ملموسة على الأرض. ولكنّ الغريب في الموضوع أنّ بطريرك القسطنطينيّة سرعان ما أعلن منفرداً أنّ استخدام الملعقة «جزء لا يتجزّأ» من تراث الكنيسة الأرثوذكسيّة، وذلك بعدما شعر أنّ كنيسة روسيا ماضية في استخدام طرق أخرى للمناولة في بعض الأمكنة. ويترافق هذا كلّه مع أصوات ما زالت تقلّل من أهمّيّة محاربة الفيروس بالوسائل العلميّة والطبّيّة وتدعو إلى الاستعاضة عنها بالاستشفاء لدى الأولياء والقدّيسين، علماً بأنّ الجائحة لم توفّر ديراً أو رعيّةً أو مجمعاً أو قائداً كنسيّاً.


من ضفاف الفولغا إلى شواطئ البوسفور تمتدّ محنة العقل في الكنيسة الأرثوذكسيّة. عنوان هذه المحنة جنوح أخرق للتحالف مع الطاغوت والتماهي مع حسابات أهل السياسة ومحاربة الحرّيّة الفكريّة ورفض لثقافة المساءلة والنقد، كلّ ذلك في زمن تهيمن عليه الجوائح التي تعيد رسم الحدود بين مساحات العلم ومندرجات الخرافة.