ثورة سمير جعجع... الوهميّة

أسعد قطّان
الأربعاء   2020/09/09
سمير جعجع (ألدو أيوب)
في الكلمة الأخيرة التي ألقاها رئيس حزب القوّات اللبنانيّة الدكتور سمير جعجع في معراب بمناسبة ذكرى الشهداء، خاطب الحكيم انتفاضة السابع عشر من تشرين وكأنّه ما زال قائد الفصيل المسلّح الذي يدعى القوّات اللبنانيّة، والمقيم في القطّارة. نسي تيّار دي شاردين واللاهوتيّين والفلاسفة المولع هو بقراءتهم، ولبس من جديد ثياب الميليشياويّ القديم كي يقول إنّ الشيخ بشير الجميّل، والقوّات اللبنانيّة التي أسّسها بشير، هما الثورة الحقيقيّة.

لم يعوّدنا جعجع في الأشهر الأخيرة على مثل هذا الخطاب المتسرّع. كان يزين كلامه ويظهر بصورة السياسيّ المتّزن، الذي يقرأ المتغيّرات بحصافة ويتقن التمييز بين الرؤية الاستراتيجيّة والتفاصيل التكتيكيّة. لكن يبدو أنّه في قدّاس الشهداء فقد صوابه لبرهة، بفعل انتفاضة لم تعترف به رغم أنّه وقف إلى جانبها، ووضع كلّ بيضه في سلّتها، عبر سحب وزرائه من الحكومة قبل استقالة سعد الحريريّ، وذلك بعدما كان قد طالب عن حقّ بحكومة إصلاحيّة مستقلّة حتّى قبل اندلاع هذه الانتفاضة. ربّما يكون سمير جعجع محقّاً في غضبه من ثورة السابع عشر من تشرين. «كلّن يعني كلّن»، إذا كانت تشمل السياسيّين جميعاً، تنطوي على تجنّ أكيد على وزرائه الذين اتّسموا عموماً بالصدقيّة والمهنيّة ونظافة الكفّ. لكنّ ما نسيه الحكيم هو أنّ خطابه الذي ينسب الثورة الحقيقيّة إلى القوّات ومُنشئها، لا يمكن أن يؤسّس لحوار جدّيّ مع المنتفضين. فهو خطاب شعبويّ لا يفعل فعله إلاّ أمام جمهور القوّات، الذي يتبنّى في الأساس منطلقات جعجع وقبليّاته ولا يناقشه فيها. كلام الحكيم ليس مقنعاً إلاّ في معراب. وهو لا يُصرف لا في ساحة الشهداء ولا حتّى في ساحة ساسين، حيث نصب الشيخ بشير.

ما الخطأ الفادح الذي ارتكبه الحكيم؟ لقد أضفى على تاريخ القوّات اللبنانيّة، حين كانت بعد ميليشيا، صفة الإطلاق وأعلن أنّها هي الثورة الحقيقيّة. ربّما يتّفق الجميع على أنّ الشيخ بشير الجميّل كان ضدّ الفساد والتوريث السياسيّ وطمح إلى دولة ليس فيها زبائنيّة ومحسوبيّات. لكنّ الخطأ المنهجيّ الذي ارتكبه الحكيم هو أنّه قارن «واقع» ثورة السابع عشر من تشرين، وهي بالطبع غير معصومة من الخطأ، بصورة «مثاليّة» عن القوّات اللبنانيّة تتألّف من مجموعة أفكار كبرى جديرة بالاحترام، لكنّها نادراً ما وجدت طريقها إلى الواقع. نسي الحكيم، أو تناسى، أنّ القوّات اللبنانيّة كانت ميليشيا، وأنّ السبت الأسود ومجزرة إهدن ومعركة الصفرا ومجازر صبرا وشاتيلا ومعارك التنازع على السلطة في الأشرفيّة والمتن وتصفية الآلاف من المخطوفين هي أيضاً جزء من تاريخها. هل هذه الأمور أيضاً جزء من الثورة التي أعلن جعجع أنّ القوّات اللبنانيّة صارت لها مرجعاً ونموذجاً يحتذى؟

ربّما كان الحكيم على حقّ حين عاب على ثوّار السابع عشر من تشرين اعتبارهم أنّ كلّ السياسيّين الذين شاركوا في الحكم سواسية، هذا إذا كانت عبارة «كلّن يعني كلّن» تعني ذلك فعلاً. ربّما كان محقّاً في دعوته إيّاهم إلى التعامل مع القوى السياسيّة، ولا سيّما مع حزبه، بتمييز أكبر وتعميميّة أقلّ. لكنّ حزب القوّات اللبنانيّة مطالب أيضاً بأن يقوم بمراجعة نقديّة حقيقيّة لتاريخه الدمويّ تتخطّى مجرّد الاعتذار عن «الأخطاء» التي ارتكبت في الماضي. هذا التاريخ لا يشفع به أنّ جعجع نفسه قضى أكثر من عشر سنوات في السجن. حزب القوّات اللبنانيّة، لكونه يعتبر ذاته أكثر صدقاً ونزاهةً من سائر اللاعبين السياسيّين، مدعوّ أن يطوي صفحة الحرب، لا عبر الاعتذار فحسب، بل عبر كشف حساب دقيق بكلّ الجرائم والمجازر والدم المسفوك، كما جرى مثلاً في ألمانيا بعد الحرب العالميّة الثانية، والتعويض المعنويّ والمادّيّ على المتضرّرين. قد يقول قائل إنّ هذا لم يقم به أيّ من الأحزاب اللبنانيّة، وكلّها كانت متورّطة في الحرب والدم. صحيح. لكنّ القوّات اللبنانيّة لا تريد ذاتها حزباً «عاديّاً» على شاكلة الأحزاب الأخرى، وترفض بلسان حكيمها منطق «كلّن يعني كلّن». تمجيد تاريخ القوّات الميليشياويّ، كما سمعنا على لسان الحكيم في معراب، هو الوقوع الفعليّ في التعميم. مثل هذا التعامل اللانقديّ مع الماضي يعمّق بشعبويّته المفرطة شروخ الحاضر ولا يؤسّس للمستقبل.

هذه المساءلة النقديّة لا تختصّ بالحرب الأهليّة فقط، بل تطال أيضاً كلّ التحالفات التي نسجها حزب القوّات اللبنانيّة مع بعض أركان الطبقة السياسيّة «الفاسدة» منذ العام 2005 وحتّى خروج القوّات من مأزق السلطة المتهاوية ومركبها المشرف على الغرق. ولعلّ عقدة انتفاضة ثورة السابع عشر من تشرين مع القواتيّين تكمن هنا بالذات. فهؤلاء لم يعترفوا بعد بأنّهم تحالفوا سياسيّاً طوال سنوات مع من تفوح منه رائحة الفساد وأنّهم، بمعنىً ما، كانوا جزءاً من الاستبلشمنت، لا عبر استفادتهم بالضرورة من صفقات مشبوهة، بل عبر غضّ النظر والسكوت تارةً والمداورة والتحايل طوراً. وحدها ثورة السابع عشر من تشرين هي التي دفعتهم إلى كسر الجرّة واعتماد خطاب أكثر وضوحاً وسلوكاً يخلو من المحاباة والرغبة في حفظ خطّ الرجعة. وحين قاموا بذلك، ربّما اتّضح لهم أنّهم أبعد بكثير ممّا كانوا يظنّون عن سعد الحريريّ ووليد جنبلاط (ونبيه برّي؟).

من حقّ ثوّار السابع عشر من تشرين أن يسمّوا الأشياء بأسمائها وأن يفضحوا كلّ هذه الالتباسات. أمّا أن ينكر الحكيم عليهم ثورتهم الرافضة لمنطق الحرب الأهليّة، الذي ليس بمنطق، ويعلن أنّ الميليشيا العنفيّة التي كان هو جزء منها هي الثورة الحقيقيّة، فهذا فيه تزوير للتاريخ، واستغباء موصوف لمن يلمّ بمنعرجات الحرب الأهليّة، وخداع مبطّن للجيل الجديد من القوّاتيّين.