"جدّو" رياض الريس

زكريا جابر
الأربعاء   2020/09/30
رياض الريس بريشة حسن إدلبي
في الطابق الرابع من مبنى "الأونيون" في منطقة "الصنائع"، كانت مكاتب شركة رياض الريّس للكتب والنشر، ومجلة "الناقد"، ومجلة "النقّاد" من بعدها. كان هناك رجلٌ، اعتقدت لوقتٍ طويل أنه جدّي، ربما لأنني كنت بلا أجداد من جهة الأم ومن جهة الأب.


كان يُجلسني في حضنه خلف مكتبه، يستدرج أفكاري بحبات الـ"بون بون"، وحين يرى الابتسامة على وجهي يبدأ بمساءلتي عن يومياتي كطفل وكنت أجيبه براحة، فهو "جدّو" وهذا المكتب هو بيت العائلة. المكان المناسب لأي شخص من أي فئة عمرية لكي يروي قصته. وحين كانت تعجبه أجوبتي كان يدلعني ويناديني بـ"عكروت" أو "أزعر" ليشعرني بحنكتي. كان عمري خمس سنوات، وأول ذكرى محفورة في دماغي مع رياض الريّس، كانت فاتحة لوجوده الأبدي في حياتنا العائلية.

بحبات الـ"بون بون" ورائحة السيجار، بالأحضان والحوار تربيّتُ على يَدي رياض نجيب الريّس. وكان والدي الكاتب يحيى جابر، يجلس أمامنا دائماً يدخن سيجارته ويبتسم، وكأنه يعي أنني في المكان الصحيح. خضت تجارب أولى في مكاتب مجلة "النقّاد" كإبن أحد كتّابها. وتعرفت على مهنةً بدت لي حينها مليئة بالمرح. كنت أتنقل بين المكاتب، أرى حسن إدلبي يرسم كاريكاتيراً من نسج وجوه العمّال في هذا المكتب. التفت يميناً ويساراً لأجد عماد العبدالله يمازحني، شاتماً والدي، وضاحكاً. أمرّ قرب محررين وكتّاب ملأوا المكاتب بالضحك والسجائر والعمل المتواصل، ليلاً، نهاراً حتى صدور العدد الأسبوعي من "النقّاد". أمشي قليلاً لأجد إلى يساري مكتباً صغيراً مليئاً بكتب الأطفال التي كانت تصدر عن دار النشر نفسها، بعنوان "الشاطر حسن".

أذكر جيداً، أن جدّو رياض كان يختار لي كتابَين في كل زيارة لي إلى مكاتب "النقّاد" برفقة أبي. وهكذا علقت في دوامة أبدية جديدة وهي حب القراءة. لماذا؟ لأن جدّو رياض سحرني وأقنعني أنني سأتسلى كثيراً بهذه القصص القصيرة المرسومة. كنت طفلاً لا تحبذ أمه خروجه للقاء أي من "أصدقاء السوء". أسمي نفسي "طفل غرفة الجلوس"، حيث لا أخرج مع أحد يوم السبت وانتظر طبخة الرز بحليب الأسبوعية لكي تجهز كي أضع ابتسامةً على وجهي. في بيتنا الكثير من اللوحات التي رسمتها أمي الفنانة سهى الصباغ، والتي انتقلت بعد حين إلى بيت رياض الريّس الذي كان يشتريها، وكانت في بيتنا أيضاً مكتبة كبيرة فيها الكثير من الكتب، واسم رياض الريّس يلمع في كل زاوية. يلمع بأغلفته التي كانت تلفت نظري. فالكتاب الذي كان يُقدمه هو لوحة بالدرجة الأولى، أو صورة، أو كولاج. ومعظم الوقت كان المضمون مناسباً وموازياً لقوة غلافه. وأعتقد أن هذا أحد أسرار رياض الريّس للبقاء في الصدارة في مهنة النشر. هو الواجهة المناسبة، غلافاً وجرأة وتمثيلاً، لأفضل ما أنتجه كتّاب العالم العربي من منشوراتٍ أدبية منذ ثمانينات وتسعينات القرن الماضي وحتى اليوم.

لم أضيع فرصة لقائه كل سنة، وهو يجلس في زاوية دار النشر التي لطالما أقيمت عند ادخل معرض بيروت الدولي للكتاب. وكنتُ قد عاصرتُ معرض الكتاب ودار رياض الريّس، كطفل. وأتذكره جيداً في مجمع "إكسبو بيروت" قرب فندق فينيسيا، قبل أن ينتقل إلى مجمّع "بيال". لكن، أينما كان معرض الكتاب في بيروت، فرياض الريّس هو الدار الأولى عند مدخل المعرض، دائماً! لا مهرب من لقاء جدّو رياض كل سنة، إن لم تتسنَّ لي فرصة لقائه في بيته أو مكتبه على مدار السنة. سنجده عند بوابة المعرض، في كرسيه المريح، الـ"بون بون" على الطاولة أمامه وخلفه "اليقطين" وسلة "التين والزبيب" التي كان يزيِّن بها "ستاند" الدار في معرض الكتاب. عندما كبرتُ، ما عدتُ أجلس في حضنه، لكنه بقي يناديني "عكروت"، وبقي يعانقني من قلبه وبقي جدّي، ليصبح بعد فترة أحد العرّابين الأدبيين الذين اتبعتهم وتابعت كل ما نشرته داره.

لم أعلم ما كان عليّ قراءته، فاستغليت فرصة أن والدي نشر معظم كتبه في هذه الدار، وعلاقته بها عائلية، وبدأ موظفو الدار وأصدقاء أبي يرشدونني إلى ما عليّ قراءته من إصدارات رياض الريّس.

في منتصف مراهقتي كنت قد بدأت أقرأ فيودور دوستويفسكي وإرنست همنغواي وفيكتور هوغو وغيرهم من الروائيين الأوروبيين والأميركيين. لكن بوابتي إلى الأدب العربي كانت دار الريس التي نقلتني إلى عالم واسع من الروايات وكتب الشعر وكتب الصحافة والتاريخ، لكتّاب لبنانيين وعرب، مثل زكريا تامر، رشيد الضعيف، فواز طرابلسي، محمود درويش، يوسف بزي، شارل شهوان وغيرهم من الكتّاب الذين عرفتُ معظمهم شخصياً منذ طفولتي، أنا الذي ترعرعتُ في شارع الحمرا، ولطالما صادفتُهم في المقاهي، وأيضاً برعاية رياض الريّس وضحكاته. بعد فترة، اكتشفتُ غرامي بالروايات البوليسية عبر مجموعة أغاثا كريستي المترجمة، وروايات جورج سيمنون البوليسية التي كانت تصدر عن الدار نفسها بأفضل ترجمة إلى اللغة العربية عبر مترجمين كبار، كالشاعر الراحل بسام حجّار والشاعر شارل شهوان وغيرهما.

وقعتُ في الفخ. واكتشفت أن الروايات البوليسية وأدب البحث عن العدالة هو الجنس الأدبي الأقرب إلى عقلي المربك منذ الصغر. لا دماء في تلك المعارك والملاحقات بين الشرطة والخارجين على القانون، بل فسحة واسعة لتشغيل مخيلتنا الخصبة بنوايانا المدفونة. لذلك، خضت أول تجربة خطرة لي بكتابة رواية بوليسية لم تُنشر بعد، لكني انتهيتُ من كتابتها وأصبحت اليوم في مرحلة التحرير والجزّ والقطع والتكسير وشد الأذنين حتى أنشر نفسي للمرة الأولى. كنت انتهيت من كتابة روايتي الأولى خلال الحجر الصحي، بعد سنوات من الأخذ والرد والمقصوصات والقصص القصيرة و، و، و، و… كان الحجر الصحي بمواجهة الكورونا من أجمل التجارب التي دفعتني لأكمل روايتي التي لطالما حلمتُ بأني سأنشرها في دار رياض الريّس. أعتقد أن هذا الحلم راود كثيرين من الكتّاب في مراحل كتبهم الأولى في لبنان أو العالم العربي.

كنت أودّ أن يرفضني جدّو رياض ويقول لي هذه الرواية ليست جاهزة أو ناضجة… أو يقول لي أن هذه الرواية عظيمة وأنني "أزعر كبير". لم أتوقع في حياتي أنني قد أفوت الفرصة لمقابلة رياض الريّس كي أقدم له نفسي من جديد بهيئة شابٍ يحاول نشر روايته الأولى، وليس كحفيد. ولعلني أوبخ نفسي اليوم على تأخري في إنجاز روايتي الأولى قبل رحيل الناشر الأقرب إلى قلبي. فرياض ودّع الكوكب، السبت الماضي، ودفناه الإثنين... من بُعد، بسبب الكورونا.

الدفن والعزاء من بُعد كان أشد الشروط للمشاركة في الدفن.. المناسبة لم يدعُنا رياض لحضورها يوماً. ذاكرتي عن رياض الريّس ناضجة جداً، مليئة بالسعادة بسببه. أذكر أنني التقيت برياض للمرة الأخيرة أثناء زيارتي لبيروت لأسبوع. كان قد حضر إلى مسرح "تياترو فردان"، ومعه زوجته فاطمة التي أحبته حتى النَّفَس الأخير وأحبّها منذ النَّفَس الأول بينهما. المفارقة في هذا اللقاء، أن جدّو رياض كان قد بدأ يستخدم الكرسي المتحرك بسبب المرض وسنّه المتقدمة. كان المشهد يقطع القلب، لأنني أعلم كم يحب رياض كرسيه، لكن ليس حين يكون متحركاً.

يوم الدفن، وصلنا تحت منزل رياض برفقة سيارة دفن الموتى، وكانت فاطمة قد وقفت على الشرفة وقبّلتنا من بُعد. كان يوماً بارداً رغم قساوة الشمس، وكلنا ابتلع الدموع والتزم التباعد الذي يفرضه كورونا.

كان جدّو رياض يكره التباعد الإجتماعي. وأعتقد أنه كان مستاءً من الحجر الصحي، فهذا الرجل عاش بكليتين معطّلتين والكثير من الأصدقاء، وهو ما ورثه عن والده كما كان يروي. ورث الأصدقاء وهم أغلى من المال. فكيف يعيش حبيب الشعب بلا شعبه؟ ثلاثة أيام في الأسبوع ليغسل كليتيه، كان يذهب بكامل إرادته، التقط الفيروس داخل المستشفى، وقضى الكوفيد على جدّو رياض.

الدفن كان قاسياً، فكل مُعَزٍّ في زاوية، بكمّامته. يقف الكاتب والصحافي يوسف بزي على بُعد أمتار من القبر الذي يُحضَّر لرياض. يقف في زاوية أخرى، المؤرخ والكاتب فواز طرابلسي تحت شجرة صنوبر، يُراقب صديق حياته يرحل بصمت. وبينهما، بين القبور، يقف أبي، الكاتب والمسرحي يحيى جابر، يودّع ناشره الأول وأوفى أصدقائه، بالإضافة إلى صديقه الحميم فرنسوا عقل وابتسامته المُربكة، وأيضاً من بعد وقف بصمت المفكّر وضاح شرارة، قرب الفنانة التشكيلية ريم الجندي بدموعها وثيابها السوداء.

عُدت طفلاً في لحظة. عُدت إلى قوقعةً لا علم لي فيها مَن هم هؤلاء الكتّاب؟ ولماذا لا يضحكون؟ لماذا لا يدخنون السيجار أو السجائر كعادتهم، في موعدهم مع ناشرهم وصديق عمرهم؟ وقفتُ أراقبهم يحدقون في جثة صديقهم وهو يعود لمجاورة والدته في مقبرة الشهداء، تحت ما تبقى من صنوبر بيروت.
هل من ناشر لنا في السماء أيضاً، كما كان على الأرض؟