بول طبر... الإصطياف في إهدن: العائلة، المجتمع المحلي والأساطير

المدن - ثقافة
الأحد   2020/09/20
تمثال يوسف بك كرم في اهدن (بشير مصطفى)
بعدما أنجز والدي بناء منزل متواضع (مؤلف من غرفتين ومطبخ وحمام) بموازاة الجانب الخلفي لمنزل عمّه "ابو سايد"، بدأت عائلتنا تصطاف في "إهدن" (وهي بلدة جبلية في شمال لبنان، تقع على ارتفاع 1450 متراً عن سطح البحر يلجأ إليها سكان زغرتا خلال فصل الصيف) منذ اواسط العقد السادس من القرن الماضي. بالنسبة لي، كان الإصطياف في إهدن الطريقة المثلى للهروب من الطقس الحار في محلة القبة والرطوبة العالية التي كانت تستوطن فضاءها. فبالرغم من نشأتي في أطراف مدينة طرابلس التي تقع على شاطئ البحر الأبيض المتوسط، لم أفضل يوماً الذهاب الى البحر بدلاً من الجبل، وأعتقد أن السبب في ذلك يعود إلى عدم تمكني من السباحة.

شيّد والدي المنزل في إهدن على قطعة ارض تبلغ مساحتها ٤٥ متراً مربعاً، وكانت ملكية قطعة الأرض هذه تعود الى جدي. وبعد وفاة جدي وجدتي، انتقلت ملكيتها الى اولادهما السبعة بالتساوي. ولاعتبارات عديدة ومعروفة لدى غالبية العائلات اللبنانية، فشل "الوَرَثة" في "حصر الارث" وتصفيته لصالح والدي الذي كان يرغب في ذلك، ولكن دون أي جدوى. للآن لم يتم الإتفاق على حل يرضي جميع الورثة، الامر الذي ادى الى عدم السكن في المنزل، واهماله لدرجة جعلته غير قابل للسكن. الملكية (وامتلاك السلطة) هي ليست فقط وراء قيام نظم الاستبداد والاستغلال في المجتمعات، بل ايضاً وراء النزاعات العائلية التي تفضي في أغلب الاحيان الى عداوات و"حلول" لصالح البعض وعلى حساب البعض الآخر.

على اي حال، الاصطياف في اهدن كان ممتعاً ومثيراً للغاية، خصوصاً بالنسبة لي، ابن الثالثة عشرة، عندما بدأت بتمضية فصل الصيف في تلك البقعة الخلابة من قضاء زغرتا. كان قبالة مدخل بيتنا في أهدن "زاروباً" يستخدمه المارة والدواب لنقل الأشخاص إلى الحقول وما يحتاجونه من أشياء عديدة. وفي أحيان قليلة كان "الزاروب" نفسه يستخدم لتقطيع جذوع وأغصان الشجر الغليظة قطعاً صغيرة لإضرام النيران في أفران الخبز أو تحضيراً لدرء البرد القارس في المنازل أثناء فصل الشتاء. أما الشخص الذي كان يقوم دورياً بتلك المهمة تلبية لحاجة الجيران إلى الحطب، كان يدعى "محسن موسى". وكانت لمحسن قامة طويلة فوق العادة، ويمتلك قوة جسدية بارزة. وكان الخبر الشائع عن مدى قوته الجسدية، أنه تمكن ذات مرة من دق ثلاثة أجراس تعود لكنيسة مار مطانيوس قزحيا دفعة واحدة، وبيد واحدة. واللافت أن محسن كان يتقبل أي تحدٍ من أبناء البلدة يتعلق بامتحان قدرته على قطع الأغصان الغليظة أو جذع شجرة مهما بلغ حجمه، بواسطة الفأس الذي كان يمتلكه لهذا الغرض. وكنت أنا وبقية أولاد الحي نحوم حوله مندهشين بقوته الجسدية الهائلة. ولاحقاً تبين لي أن اندفاع محسن لتقبل تحدي الآخرين، لم يكن فقط بسبب قوته البدنية التي يستخدمها لإكتساب "مكانة" اجتماعية يفتقد لها لولا قوته البارزة ، وإنما أيضاً بسبب احتسائه للكحول في أغلب الأوقات قبيل قيامه بتقطيع الحطب المطلوب.

ومن الامور التي اختبرتها للمرة الاولى في تلك المرحلة من العمر كانت محاولتي الاولى للتدخين. بالطبع اختبار التدخين لم يكن بواسطة السيجارة التي تشترى من "الدكنجي"، ولا حتى باشعال سيجارة جُهزت من أعقاب السجائر التي تُرمى على قارعة الطريق. اعتمدت التجربة الاولى في التدخين على "القش" المثقوب والمتوفر بغزارة في الطبيعة. قصدنا، أنا وشلة من الأصحاب بقعة كانت تعرف بمنطقة "السن"، وهي بعيدة عن انظار المارة والأهل بالطبع. لم يكن الوصول الى تلك البقعة عسيراً علينا، لكنه كان يستحيل على عامة الناس وعلى السيارات لارتفاعها بحدة اولاً، وعدم وجود طريق مزفتة تقود اليها. اما نحن شلة الاشقياء، فقد اعتمدنا على فتوتنا والممرات التي فتحتها أقدام الماعز. وعندما وصلنا الى الصخرة المنتصبة كحائط صغير قبالة البلدة، والتي يطلق عليها تسمية "السن" لتشابه شكل الصخرة به من بعيد، جلس الجميع القرفصاء والتقط كل منا ما تيسر من عود "القش" ذات الدائرة الواسعة نسبياً والمنتشر بكثافة على الأرض. كانت تلك هي السيجارة التي ننوي تدخينها. وعندما اشعل كل واحد منا "سيجارته"، وشفطنا الدخان المتولد منها، بدأنا بالسعال المتكرر والشديد، وكان مصحوباً بطعمٍ مرٍ يدفع الى الغثيان. ومنذ تلك اللحظة، تولد لدي شعور كاره للتدخين بقي يصاحبني لغاية الآن.


منطقة "حميْنا" كانت مقصدنا عندما كنا نرغب في الابتعاد عن انظار الاهل والجيران والركض في مساحة واسعة وآمنة. كانت "حميْنا" ملعباً لكرة القدم، يتم تحويله أحياناً إلى مكان لقيام مسرحيات كجزء من "مهرجنات إهدن" التي أطلقت في ستينات القرن الماضي. وفي عمر الرابعة عشرة، أذكر انني قصدت ذلك المكان ليلاً (صيف 68) لأشاهد ما كان يجري فيه تحضيراً لتلك المهرجانات. بالطبع لم يكن مسموحاً لنا، كما عامة الناس، الاقتراب من ذلك المكان، وذلك حفاظاً على سير عمل التمرينات على مسرحية كان قد كتبها الشاعر يونس الابن، كما علمت لاحقاً. وتبين لي أيضاً، وانا أقف على مسافة بعيدة نسبياً من ذلك المكان في "حميْنا"، وجود امرأة على قدر من النشاط ما يشير الى قيامها بدور رئيسي في التمارين التي كانت تجري. كان صوتها جهورياً وفيه "بحة" مميزة. وكانت تعطي التعليمات يميناً ويساراً حيث كان الممثلون موزعين على خشبة المسرح. أثار المشهد إعجابي كثيراً، وذلك لانني كنت قد بدأت بالانجذاب الى التمثيل والاخراج المسرحي منذ بداية السنة الدراسية المنصرمة. فخلال تلك السنة، حاولت بالتعاون مع صديقي عمر صليبا (اخبرني عمر بان والده كان معجباً بعمر بن الخطاب ولذلك اسماه عمر) ان نمسْرح قصيدة الشاعر الاخطل الصغير "الهوى والشباب". كانت الفكرة تقوم على أساس أن يمثل عمر دور الشباب صامتاً ومحركاً جسده تماشياً مع مضمون القصيدة، بينما أقوم بإلقائها دون أن أظهر على المسرح.

على اي حال، بقيت اراقب ما كان يدور على المسرح في "حمينا" علّني أكتسب بعض المهارات التي كانت تتجلى على المسرح دون ان اتمكن من ذلك لبعد المسافة وعدم سماع كل ما كان يدور من كلام. وعلمت لاحقاً ان المرأة التي كانت محور الحركة على المسرح كانت "نضال الاشقر".


ولـ"حميْنا" دور آخر في الاوقات التي قضيتها في إهدن. كان على "تلة" من الجهة الجنوبية الغربية لملعب حميْنا مغارة صغيرة وهي كناية عن "حفرة" افقية في صخرة متوسطة الحجم. والشائع في إهدن ان تلك "المغارة" كانت ملاذاً ل "البطل"، يوسف بك كرم، الذي قضى حياته وهو يحارب السلطنة العثمانية من "أجل لبنان". وعلى الجهة اليمنى للمغارة وعلى مستوى أعلى منها بقليل، كان يوجد "حفرة" او "حفرتان" في صخرة مفلطحة لا يتجاوز عمقها العشرة سنتمترات، تبدأ بالإنحدار تدريجياً من بدايتها لتصل الى ذلك العمق عند النهاية، على امتداد ما يقارب الثلاثين سنتمتراً. وكان الاعتقاد السائد في البلدة ان تلك الحفرة أو الحفرتين هما آثار لأقدام فرس البطل يوسف بك كرم حيث كان يربض خلال اختبائه في المغارة بعيداً عن عيون الجنود العثمانيين. وكنا نقف أمام الحفرتين ونتلمسهما بأصابعنا متعجبين ومبهورين بالقدرة الخارقة لحصان يوسف بك على إحداثهما. وإذا كان هذا ما فعلته أقدام فرس يوسف بك، فما بالك بقدرته هو شخصياً، والعجائب التي كانت تروى عنه على مسامعنا بين الحين والآخر. ومن بين ما تناهى إلى مسامعنا آنذاك، هو قدرة البطل على تجميد جسد كل من يجرؤ على الدخول إلى المغارة التي كان يختبئ فيها، الأمر الذي كان يجعلنا نقف أمام مدخلها "مسمرين" لا نتجاسر حتى على مد يدنا إلى داخلها خوفاً من أن "تتيَبْس"، ولا يعود بمقدورنا أن نحركها ونسحبها من الفضاء الذي اقتحمته.

بالطبع لم تكن القدرة العجائبية حكراً على يوسف بك كرم وحصانه الأسطوري، بل كانت موزعة على القديسين في إهدن بأشكال ووظائف متنوعة. ففي نهاية الطريق المؤدية إلى نبع مار سركيس، كان يوجد دير نُسِبَ إلى القديس ذاته. وفي محيط الدير، كان يوجد شجر جوز تمتد أغصانه الوارفة إلى جانب الطريق العام حيث كنا نتواجد بين الحين والآخر لإتمام "كزدورة" بعد الظهر. وفي كل مرة كنا نمر فيها بجانب الدير وشجر الجوز التابع له، لم نكن نجرؤ إطلاقاً على قطف ولا حتى حبة جوز واحدة رغم وفرتها على الأغصان القريبة جداً من الجهة التي كنا نمشي عليها. والسبب في ذلك كان اعتقادنا المنتشر في إهدن بقدرة مار سركيس العجائبية في جعل كل يد تمتد إلى "جوزاته" تلتحم بحبة الجوز المستهدفة بصورة دائمة لا فكاك منها. هكذا كان "رهبان" دير مار سركيس يصونون ممتلكات الدير الزراعية باستخدام " المقدس" للحفاظ عليها من تطاول المارة، صغاراً كانوا أم كباراً. في النهاية، يتبين أن الأساطير والعجائب المنسوبة إلى القديسين وبعض الأفراد أصحاب الأدوار المميزة في مجتمعاتهم، تندرج من حيث تأثيرها على الأفراد والجماعات في آليات رمزية (ذات أبعاد حميمية وإيمانية) تؤول إلى إعادة إنتاج منظومة التسلط والسيطرة في تلك المجتمعات. ونظرتنا آنذاك إلى كل من "يوسف بك كرم" و "مار سركيس" خير دليل على ما نسوقه في ختام هذا الكلام.
(*) مدونة نشرها الكاتب بول طبر في صفحته الفايسبوكية