محمد عطوي وطفلة الضاحية

رشا الأطرش
الجمعة   2020/09/18
وُجدت جثتها محروقة.. ووالدها يتخوف من التدخلات الحزبية لمصلحة الجُناة
استيقظ اللبنانيون، صباح اليوم، على خبرَين عن جريمتين: وفاة لاعب كرة القدم في فريق "الأنصار" محمد عطوي، بعد صراع مع القدر دام شهراً كاملاً، أي منذ أن أصيب برصاصة طائشة في رأسه. والخبر الثاني عن مقتل طفلة في الرابعة عشرة من عمرها، في الضاحية الجنوبية لبيروت، وقد عُثر على جثة الفتاة، بعد اختفائها لأيام، محروقة، ما صعّب على الأهل التعرّف عليها إلا بعد فحص الحمض النووي، وصعّب أيضاً التحقق مما إذا كانت ضحية اعتداء جنسي قبل قتلها. 

جريمتان مروّعتان، وهو حال الجرائم دائماً، لكن ثقب الألم في القلب يبدو أكبر وأفدح حينما تسيل دماء الشباب والأطفال. وعدا عن تزامن إعلان الفاجعتين في يوم واحد، فإنهما تتشاركان تكاملهما في تلخيص المشهد العنفي العام في لبنان، حينما لا نحتسب "العنف الرسمي"، سواء كان مباشراً بأيدي القوى الأمنية والعسكرية، أو غير مباشر بوساطة شبيحة أحزاب السلطة.

فمحمد قُتل في الحيز العام وتقريباً بقضية عامة، برصاصة طائشة أطلقت خلال تشييع أحد ضحايا انفجار المرفأ. هو قتيل السلاح المنفلت، وأيضاً ضحية مكلومين بضحية أخرى من ضمن مئات أودى بهم انفجار 4 آب. هكذا، تتعرّج الخطوط وتتقاطع لتعيدنا إلى المجرم الأكبر: النظام اللبناني ودولته السائبة، المنخورة، المرتهنة، وكل قطب من أقطاب العصابة الكبرى. أما الطفلة التي ضيعت النار ملامحها، بل وملامح ما يُعتقد أنه ارتُكب في جسدها وروحها قبل حرقها، فربما تبدو قصتها، للوهلة الأولى، قصة جريمة فردية في حيز خاص، لكنها في الواقع صريعة الأمن المفقود في الداخل كله كما الخارج كله، وتعطّل المرجعيات والرادع القانوني والقضائي. وليس تفصيلاً أن يعبّر والدها صراحةً عن تخوفه من الواسطة والتدخلات الحزبية لمصلحة الجُناة، مطالباً بضغط الرأي العام كي لا يتنصل "المعنيون من واجباتهم" اتجاه ابنته.

محمد عطوي وطفلة الضاحية، حلقتان في سلسلة من جرائم السطو والسلب والخطف والقتل، والمتفاقمة منذ سنة على الأقل. من نافل القول أن استفحال الأزمة السياسية والاقتصادية، والآن الأمنية والحقوقية، هو سبب من الأسباب، أو في الحد الأدنى هو أحد تفسيرات تكاثرها وتمدد رقعتها في طول البلد وعرضه. الجرائم ظلال الانهيارات الكبرى على الأرض. لكن الحالة اللبنانية، كما العادة، ولّادة المزيد. فالعطب قديم ومتجذر وأصيل، ولم تفعل الأزمات الأخيرة سوى أنها ظهّرته أكثر، ووسّعت دائرة المصابين.

يفترض أن الجريمة هي الاستثناء الذي يؤكد القاعدة، الخرق الذي يبيّن ماهيته كخرق، فيرسخ القانون بما هو تشريعات وأحكام، وكذلك "قانون الحياة" الذي تتوافق عليه الجماعات الأهلية، بداهةً، لحماية أعضائها وضمان استمراريتها. بل قد تفضي جريمة إلى سنّ قوانين جديدة للتعامل مع ما لم تكن له سابقة. وأحياناً تكون "الجريمة" خلاقة، تكسر القانون من أجل تصويبه، وجعله أكثر إنصافاً ورحابة لاستيعاب المزيد من فئات المجتمع، على غرار "الجرائم" التي تحدّت قانون منع التخالط العرقي في أميركا إلى الحد الذي فرض إلغاءه.

غير أن الجريمة في لبنان، إن أكّدت على شيء، فعلى حالة اللاقانون واللاقضاء واللامرجعية المُواطنية. جريمة تؤكد أنها مُستطاعة، وممكن بل مرجّح، أن يتفادى مرتكبها تبعاتها. جريمة تؤكد عدالة التراضي التي لا ترقى حتى لأعراف العشائر، وأن القانون زينة الرجال، زينة خارجية كمالية بالمعنى الحرفي للكلمة، فيما السلاح عضوي من أصل البُنية، وأن المحاسبة ترفُ المجتمع واستثناؤه ذو الشرط الوحد: أن يكون المجرم بلا سند. فلنتذكر العدد الهائل من الجرائم، كبيرها وصغيرها منذ سنة واثنتين وثلاث، حتى بعضها الذي نال اهتماماً إعلامياً عارماً وتحول قضية رأي عام، ومع ذلك انطفأ أو خرج المرتكبون بأخفّ العقوبات أو صارت نسياً منسياً. الجريمة في لبنان تقوّض حتى جدالات علماء الاجتماع حول ما إذا كان المجتمع هو مجموع أفراده أم جمع جماعة ذات خصائص تُدرس بكُلّيتها. فلُبنان، في مرآة جرائمه، قطيع ممسوس يُسيّر بالبلطجة، الرمزية والفعلية.

يفترض أن الجريمة هي الانحراف الذي يبرهن قِوام الخط العام، بالضبط لأنها انحراف، ولأن الخط العام قويم بالتعريف وبالضرورة.. قوانين أو أجهزة دولة، تحفظ استقرار العيش، أو على الأقل الاستقرار هو هدفها ومهمتها الأساس. لكن الجريمة في لبنان تؤكد كل سلطة خارج سلطة الأمان، تكرس كل متسلط مستحوذ ونفوذ الأمر واقع.. هي الانحراف الذي يثبت نفسه، لا سواها، ويثبت امحاء الخط العام، بل وأنه لا عام في هذه العامّية اللبنانية.

في أثناء كتابة هذه السطور، ورد خبر عن إصابة سيدة برصاصة طائشة في رأسها في منطقة الميناء في طرابلس، خلال تشييع الشاب محمد الحصني الذي غرق في عبّارة المهاجرين. المسلسل مستمر، وبنجاح كبير.