سوريا فوبيا

رشا الأطرش
الثلاثاء   2020/08/04
(اللوحة للفنان السوري خالد تكريتي)
"سوريافوبيا: الخوف من قضاء بقية الحياة في سوريا. فبعد ثماني سنوات من الانحطاط، الفساد، والدمار، بسبب الحرب الأهلية السورية، طوّر السوريون من مواليد الألفية الثالثة، شكلاً فريداً من أشكال القلق الجماعي، والذي اشتقّ نوعاً جديداً من أنواع الفوبيا (الرُّهاب) يُشار إليه اليوم بتسمية سوريافوبيا".


نُشر هذا التعريف في موقع Urban Dictionary (القاموس الحضري)، العام الماضي، لكنه عاد الآن، وبلا مقدمات معروفة، إلى التداول في مواقع التواصل الاجتماعي. لعل أحدهم عاود اكتشافه بالصدفة، وشاركه، فجدّد انتشاره. الأمر الذي قد يسبغ على المصطلح وزناً إضافياً، إذ يُظهر أنه وجد صدى ما لدى المعنيين به ولفيفهم، أنه لاقى تماهياً، أو فضولاً وتساؤلات في أقل تقدير. ولعل سوريين كثر أدركوا، ببساطة الوقوع على الكلمة في خلال تصفّحهم الالكتروني الروتيني، أن هناك إسماً لتلك الحالات التي تتمكن أحياناً من جُمَلهم العصبية وكُتلهم النفسية العميقة. وأن مَن يعانيها ليس وحده، وليس استثناء. بل إنه "رُهاب" يكاد يكون "وطنياً"، أو أحد أكثر المشاعر والأفكار وطنية، من بين ما يتشاركونه أو يقسّمهم.

لا هيئة تحرير، ولا لُغويين، ولا ناشرين متخصصين يقررون الكلمات والمصطلحات المُدرجة في "القاموس الحضري". فالمنصة الالكترونية التي انطلقت العام 1999 انتمت إلى موجة crowdsourcing، أو المعلومات/المعطيات التي يستقيها الجمهور من الجمهور، حيث يضطلع المستخدمون أنفسهم بكتابة التعريفات وتحريرها والتصويت على جودتها. أي أنه، نوعاً ما، قرين "ويكيبيديا" وأشباهه من المواقع. لكن "القاموس الحضري" ذهب خطوة أبعد. إذ بدا، مع الوقت، مُجنَّداً لإعادة الاعتبار للتعابير التي تفرزها الحياة اليومية والثقافة الشعبية. ثقافة الشارع، لا سيما المدينية، وثقافة الميديا التعددية، والكلمات العامية التي لا تدين بالولاء للغة الرسمية الرصينة المكرّسة بالمعاجم التقليدية، بل تتمرّد عليها وتحاول مجاورتها إن لم تسعَ إلى تهشيمها الرمزي. محررو الموقع أرادوه حرّاً من كهنة اللغة وحرّاس المعاني، مفتوحاً، كما الانترنت التي كانت، في لحظة إطلاق "القاموس"، لا تزال في بدايات انتشارها والعالم يستكشف سحرها.

وبمرور السنوات، يبدو أن نبرة تهكمية ساخرة سادت في "القاموس"، وكأن محرريه فرغوا من كسر كل محرّمات اللغة المصون، وانتقلوا إلى اختراع تعابير وكلمات للتباري في النكتة والهزء. وراحوا يخترعون أيضاً، على ما يبدو، تسميات جديدة، لمشاعر وحالات نفسية لم يلتفت إليها العِلم أو المتخصصون حتى الآن، سواء على مستوى التشخيص التقني أو اللغوي. وهذا ما يعتبر فتحاً مستمراً، وكوّة متزايدة الاتساع في جدار القوالب وعلب المفاهيم، رغم الفوضى والمغالطات التي يمكن أن تنتج عن مدوّنة كلمات وتعريفات مفتوحة للجميع. فهذه أضرار جانبية حتمية للانترنت ومختلف شبكاتها الاجتماعية، والجميع بات متآلفاً معها وواعياً لسبل التعامل معها.

وفي كمالة تعريف "سوريافوبيا" في Urban Dictionary أن "الشباب من مواليد الألفية الثالثة، يفزعهم احتمال أنهم سيقضون بقية حياتهم في بلد غارق في قذارته. وعوارض هذه الفوبيا تتضمن قلقاً شديداً وخوفاً من عدم التمكن من مغادرة سوريا لبدء حياة أفضل في مكان آخر، أو الخوف من أن يُجبر مَن غادر على العودة. ومن العوارض المثيرة للاهتمام أيضاً، والتي لوحظت لدى آلاف السوريين، خصوصاً أولئك الذي نجحوا في ترك البلاد، كابوس ليلي متكرر، وفيه يرى الحالم نفسه في سوريا مجدداً، وكأنه لم يغادرها. وهذه الأحلام وُصفت بأنها كوابيس مؤججة للاضطرابات، مخيفة، ورهيبة".

إنها الكوابيس التي تتردد "حكاياتها" ومشهدياتها المرعبة بين السوريين. وغالباً ما يمتزج فيها الحنين بالرعب، بمأزق ما يقع فيها الحالم في الأمكنة التي تضم ذكرياته وصوره مع أهل وأصدقاء. وغالباً هو عالق في محنة، أو هارب أو مهرِّب لأحبّتة من خطر محدق: ملاحقة الأمن، الاعتقال، التعذيب، الاغتصاب، القتل، القصف والقنص... هي الكوابيس ونوازع القلق التي تمظهرت بوضوح، خلال السنوات القليلة الماضية، في الفنون التشكيلية والسينمائية والموسيقية والروائية.

ورغم إشكاليات الصواب السياسي في الغرب، والتي زادتها تمدداً واستعصاءً السياقاتُ الأميركية في عهد دونالد ترامب، وخصوصاً مقتل المواطن الإفريقي الأميركي جورج فلويد، إضافة إلى تجدد حركة "مي تو" وتفرعاتها، فإن الاعتذار المبطن الذي أعلنه موقع Urban Dictionary مؤخراً عن أي إساءة ربما تسببت بها السخرية الطاغية لمستخدمين ملوّني البشرة أو نساء أو مثليي ومتحوّلي الجنس، هذا الاعتذار والوعد بمزيد من الحذر (الرقابة) لم يبدُ ذا دلالة او اتصال بمنشور "سوريافوبيا" الموجود في الموقع منذ أكثر من سنة، لا من جهة القائمين على القاموس نفسه، ولا من جهة المستخدمين السوريين الذين دوَّن بعضهم في الموقع اعتراضه على تنميطات أخرى لها علاقة بتعريف "العربي" أو "السوري"، لا سيما في ما يتعلق بالإرهاب أو التشدد الإسلامي.

وكأن تعبير "سوريافوبيا" حاز قبولاً مُعتبراً. عبَّر عن شيء ما، موجود، لكنه ظلّ طويلاً بلا اسم. والاسم ليس بالتفصيل الهيّن. الاسم يقول لك أن كوابيسك ليست من صنعك وليست فرديتك، بل هي الدلالة على أنك أسير ماكينة الضحية التي صنعها نظام فتّاك. يقول إن قلقك الدائم من عدم القدرة على الرحيل عن وطنك، أو من أن تُجبر على العودة إليه بعدما نجحت في الفرار، هذا القلق ليس مرضك، ليس ضعفك، وليس جُبنك. هذا القلق ليس تناقضاً بين حبّك للمكان الذي فيه ولدت وكبرت وكوّنتَ حياة كاملة، وبين رعبك من البقاء فيه ومن ألا تسنح لك فرصة الهروب منه. بل هو ظاهرة، حالة تستدعي التعاضد. والتعاضد ملامح متوافرة، ولو بمشاركة التعريف في صفحات السوريين وتحويله خبراً في منابر إعلامية سورية. ولو بمجرد أن تعرف أن ثمة من صَفَن قليلاً واجترح التسمية وفسّرها في موقع مفتوح، كاسر للسائد، متجرّئ باليومي والبشري والعادي على نظام اللغة الحديدي.