أقطاب السنّيّة السياسيّة، لماذا هم عاجزون؟

أسعد قطّان
السبت   2020/08/29
المجلس الشرعي بحضور رؤساء الحكومة في دار الفتوى (المدن)
يتّفق أقطاب السنّيّة السياسيّة التي تلتفّ حول دار الفتوى، أو تتلطّى بها، على انتقاد «العهد القويّ» وتحميله مسؤوليّة الخراب الذي حلّ بالبلد. التصويب على العهد له ما يبرّره، ولا شكّ. فهنا يمتزج الأداء السياسيّ، الذي يفتقد إلى المناقبيّة في الأداء وإلى الأخلاق في السياسة، بالبعد الشخصيّ الذي يترجّح بين التهوّر واللامبالاة. وربّما يكون بيت القصيد هو محاولة سيّد العهد وصهره النشيط الالتفاف على صلاحيّات رئيس مجلس الوزراء وتقزيمها ومسخها. بدعة «التأليف قبل التكليف» مثال صارخ على مثل هذا الالتفاف وتحوّل الدستور إلى ممسحة بين بعبدا واللقلوق، حتّى إنّ تعيين موعد الاستشارات النيابيّة «الملزمة» لا يستقيم ما لم يبهدلنا الفرنسيّ ويذكّرنا بأنّ ما يأتي بعد انهيار لبنان هو زواله المحتوم عن الخارطة.

لكنّ السنّيّة السياسيّة، التي تتفّق على انتقاد العهد وتفكيكه وفضح عوراته، تبدو مشتّتةً وغير قادرة على إنتاج بديل ينسجم مع صرخات الناس ويلاقي تطلّعاتهم. لقد بات من الواضح، مثلاً، أنّ سعد الحريري لم يعلن انسحابه من بازار الترشيح إلّا لأنّه اكتشف أنّه لن يستطيع العودة إلى السراي بشروطه. ما زال السراي يستقطب الحريري، إذاً، رغم كلّ ما حلّ به من تصدّع بفعل انفجار المرفأ. لكن يُحسب للرجل هذه المرّة أنّه، في انسحابه، وجد طريقه إلى لغة واضحة وصريحة، وذلك بخلاف الحقبة التي سبقت تكليف حسّان دياب حين وجدناه يختبئ وراء لغة ملتوية وعبارات ملتبسة: يرفض وكأنّه يقبل، لا يريد وكأنّه يريد. مشكلة الحريري أنّ «الثنائي» الشيعيّ لا يصدّقه حتّى حين يرفض بكلمات واضحة، وذلك من باب تأويل موقفه أنّه أشبه بدلال الحبيب الذي عرف مقامه فتمنّع. والحقّ أنّ الحريري لا يمتنع عن الدخول في معادلة حكوميّة جديدة يفبركها له قتلة والده فحسب، بل يمتنع أيضاً عن تسمية مرشّح آخر لرئاسة الحكومة. وهو بهذا يكشف ضعفه ومعطوبيّته. فهو لا يستطيع أن يتخيّل شخصاً آخر في السراي سواه. لا شكّ في أنّ هناك أموراُ كثيرةً يختلف فيها سعد الحريريّ عن السيّد حسن نصر الله. ولكن ما يجمعهما اليوم هو أزمة صدقيّة في القول والفعل تكاد تزكم الأنوف.

لكنّ السنّيّة السياسيّة لا يختزلها سعد الحريري. هذا الداء الذي اسمه «الانفعاط» بالسلطة يبدو أنّه ينسحب على كثير من أقطابها، بحيث يجعلون أهل السنّة غير قادرين على استنباط بديل يلبّي طموحات انتفاضة السابع عشر من تشرين. لماذا لا تستطيع السنّيّة السياسيّة اليوم أن تخرج لمرّة واحدة من تردّدها ودورانها المستميت حول ذاتها، وحول انتقاد عهد بات الأطفال يعرفون أنّه فاشل، لتنتقل إلى مرحلة اتّخاذ قرار بحجم الثورة وحجم إنقاذ البلد، مثلاً الوقوف خلف نوّاف سلام والقول بالفم الملآن: هذا هو مرشّحنا لا لأنّه صفوة أهل السنّة و«الأقوى في طائفته»، بل لأنّه الأكثر نزاهةً بيننا، ولأنّه رجل المرحلة، ولأنّه مرشّح الثورة، وهذا لا علاقة له بالسفارات والأميركان، بل بالضمير والأخلاق وإنقاذ بلد دخل في موته السريريّ. لماذا لا يقولون؟ لماذا لا يستطيعون؟ لماذا لا يجرؤون؟ لماذا هم عاجزون؟ هل لأنّ كلّ واحد منهم عين قلبه على السراي ولكنّه يمنح طرف عينيه شيئاً آخر لكي نحسب أنّ الهوى حيث ينظر - رحم الله عمر بن أبي ربيعة. هل لأنّهم لا يختلفون عن معظم القادة الموارنة في شهوة السلطة وعبادة الكرسي والطرف الشاخص أبداً إلى بعبدا حتّى ولو كانت منتوفة الجناحين بعد الطائف؟ ومن يصدّق بعد اليوم أنّهم لا يشبهون حزب الله في خشيتهم من رجل بنزاهة نوّاف سلام ربّما يفضحهم، ويكشف أنّ معظمهم جزء من المافيا التي نهبت البلد، ولكن برتبة مافيوزو من الدرجة الثانية يقتات بما يتصدّق عليه به «سيّده» الشيعيّ، الذي يمتشق مسدّساً باليد اليمنى ويحمي باليسرى مستودعاً محشوّاً بالصواريخ الذكيّة والنيترات الأقلّ ذكاءً.

«كلّن يعني كلّن»، قال ثوّار 17 تشرين. وفي كلّ مرّة يحاول سياسيّو لبنان التملّص من «الكلّن» والتجلبب بجلباب النزاهة، يثبتون أنّ لعنة «الكلّن» تلاحقهم حتّى إلى مخادعهم وغرف نومهم. فهل يثبت أقطاب السنّيّة السياسيّة اليوم، ولو لمرّة واحدة، أنّهم يستطيعون اتّخاذ قرار بحجم الوطن عوضاً من التسكّع على أبواب طائفيّة قاتلة صارت بحجم اللعنة؟