تاج بيروت المترنّح

رشا الأطرش
الجمعة   2020/08/14
من بيوت الجميزة بعد انفجار المرفأ (غيتي)
كانت واحدة من ليالي رأس السنة، بعد اغتيال رفيق الحريري ببضع سنوات. أي سنة بالتحديد؟ يصعب التذكر. فلطالما عشنا سلسلة من الأفراح والأتراح الموصولة، المتداخلة، إلى درجة تماهي الغضب بالاحتفال، النشوة بالقنوط والفزع، الحب بالاستفزاز: اغتيال الحريري، دكّات ورعبات الاغتيالات والتفجيرات المتلاحقة من بعده، حرب تموز، غزوة 7 أيار، إقفال وسط بيروت قسراً بما سمّي اعتصاماً وكان في الحقيقة احتلال جماعة "شكراً سوريا" لمشروع أريد له أن يكون علامة السِّلم الأهلي المستعاد بعد حرب.. وذلك كله، بموازاة صعود وهبوط شوارع وحانات، ومراتع نَسجِ علاقات وسياسة وفن بين من كانوا أبناء محاوِر، ساحات تواصلٍ لحبورٍ محض، عابرٍ للأزمات، وأحياناً الطوائف. 


في ليلة رأس السنة تلك، قصدنا ساحة الشهداء، قبل انتصاف الليل، مدججين بقناني النبيذ والأكواب الورقية، لمشاهدة الألعاب النارية لحظة دخول العام الجديد. نصف ساعة لا أكثر، ومشينا مجموعة من عشرة أشخاص على الأقل، إلى الجميزة ومار مخايل، لنقضي معظم السهرة سائرين في الشارع الصاخب. نمرّ على حانة بعد أخرى لشرب كأس سريعة، ثم نكمل المسير، هكذا بلا هدف، وبلا موعد مع أحد. لا ندخل مكاناً ونبقى فيه، ففي الداخل لا شيء، الخارج هو كل شيء. حتى الكأس، نحضرها من "البارمان" ونخرج بها إلى الرصيف الرحب مهما ضاق. نحكي مع أشخاص لا نعرفهم، نتبادل النكات، أحياناً الرقص، وأفعال الاحتفال التي قد تبدو بلهاء في أي ليلة أخرى، لكنها في مثل تلك الليلة طقس عبادة لا كُفرَ به. ونمشي ونمشي حتى آخر الشارع. يخرج علينا الساهرون بقبعاتهم من كل شكل ولون، وأقنعة الاحتفال، يحيّوننا بصفارات البهجة، ونستعير قبعاتهم لنرتديها ونلتقط الصور.. هذه الصور التي تبدو اليوم من زمن سحيق، بل من حلم في منام شعب بأكمله. ولم نعد أدراجنا، إلا بعد ساعات. عدنا إلى شارع الحمرا، لنختتم الرقص، ومحادثات أوّل الفجر، إلى حين استتباب الصباح، فمنقوشة "بربر"، فبيوتنا المتناثرة حول "كَعبَتنا".

لم تكن تلك الليلة يتيمة. لكنها تبدو الآن، في خلفية المشهد الأبوكاليبتي لمحيط المرفأ البيروتي، جوهرة تاج سقط مراراً عن رأس المدينة التي ما انفكّت تلمّه عن الأرض، تقوّم اعوجاجاته وتلصق كسوره، لتعتمره من جديد، وتبتسم. نحن جيل لم يلحق مجد شارع الحمرا قبل الحرب. جيل "بيروت الغربية" تحديداً، الذي لم يختبر وسط بيروت وعاءً بهياً لتمازج الطبقات والجماعات في الأسواق والمقاهي وكاراجات النقل من المناطق وإليها. عرفنا حمرا أخرى، بما صمد من علاماتها القديمة، دور سينما ومقاهي ومتاجر، وبما زاد عليها في ما بعد. عرفنا، بعد الحرب، حمرا الصحف والكتّاب، الندوات والتسوق الذي تستطيعه رواتبنا المحدودة، والناشطين في مجتمع مدني يتشكّل جديداً. حمرا السهر الذي نحييه ببنطلونات الجينز، لا بمعاطف الفرو والبذلات كما تشي صُور الستينات. وعرفنا وسط بيروت التسعينات، ملمّعاً مرمماً، مسيجاً بإشكاليات صعبة عن حقوق المالكين الأصليين التي هضمتها شركة "سوليدير"، وأسئلة وظيفة "البلد" الثقافية والاقتصادية، واحتكاره من قبل فئة ميسورة أو تكاد، وصورته المُعدّة للسياح العرب.. بموازاة إعادة خلق شيء من ألق مدينة تنفض عنها موتها، ولو بشيء من الاصطناع. وقبل قصّ شريط افتتاح "داون تاون" واختراع ترفيه شارع "مونو"، ولما كانت الحمرا لا تزال أرصفة مكسرة ودُشَم تُرفَع بحذر، أفلتنا مكبوتات مراهقتنا التي صادرتها الحرب في البيوت والكانتونات المقفلة، في زواريب جونيه والكسليك النظيفة المتلألئة بأنوار الشوارع والسيارات والمحلات، بعدما كنا نسينا كيف تضاء لمبات البلدية.

في جونيه والكسليك، كنا زواراً مبهورين، لكننا لم نَدُم للمنطقة التي عادت، بعد سنوات قليلة، حديقة منازل سكانها أكثر من غيرهم. أما الجميزة – مار مخايل، وهي تقريباً آخر ما صعد من مناطق الاجتماع البيروتي الشبابي، في ما خلا بدارو، فطرحت نموذجاً يكاد يكون فريداً. أسلوب حياة شبيه بالأوروبي، يدور بحيوية نهارية وليلية بين أبنية وأزقة تعود تصاميمها إلى المرحلتين العثمانية والفرنسية. الترفيه والعمل، الإبداع والحراكات المدنية، ديناميات مزنّرة بجمال سياحي، سوى أنه لم يكن كذلك، بل كان جمالاً فحسب، طبيعة مدينية بحد ذاتها ولذاتها، تسكب التاريخ المحقّب من تلقائها، بلا عناء وبلا تخمة. التراث المعماري والبصري، هنا، لم يبدُ إطاراً للشكل أو مزاراً، بل مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بناسه، القدامى، والوافدين الذين سرعان ما يصبحون ناسه بالحد الأدنى من المطبات الطائفية والمناطقية. هذه بيوت ملونة مسكونة، ومبانٍ بقناطر تحوي مكاتب صغيرة وكبيرة ديكوراتها الداخلية ووظائفها غاية "المودرن"، وتجد أيضاً مقرات حزبية وملصقات سياسية. في البيوت أفراد، فنانون وموظفون و"فريلانس" من كل نوع، أجانب وعرب ولبنانيون. وفيها أيضاً عائلات توارثتها أبّاً عن جَدّ. حتى عندما تكاثرت في المنطقة المطاعم الباهظة، واصطفّت على قارعة الرصيف سيارات فارهة، ظل جزء منها سانحاً للمتسكعين الذين يتحاشون طلب العشاء مع كأس النبيذ. كما ظلّ ممكناً لسكن طلاب، ومَن هم في باكورة الحياة المهنية. بل رحّب، بعد الثورة السورية، بشبان وشابات تدفقوا على لبنان مشتغلين بالكتابة والسينما والموسيقى وحملات المناصرة السياسية والاجتماعية.

وفي خضم هذا كله، لم يذُب قدامى السكان في هذا الضجيج، لم يتلاشوا، كما لم يتجبّروا عليه أو يتعنتوا. حتى أصحاب الدكاكين العتيقة وحرفيي إصلاح الثريات والساعات وتجار الأنتيكة العجائز، اندمجوا بشكل عجائبي في المشهد المستجد، أو أنه هو اندمج فيهم. وفي الوقت نفسه، ظلت أصواتهم عالية، مُطالبةً باحترام المكان كمنطقة سكنية أيضاً، وخَفضِ أصوات السهر بعد ساعة معينة، محركين لمطلبهم جمعيات واعتصامات أهلية، إمعاناً في جعل الضجيج حياة متكاملة.

في الجميزة – مار مخايل، ظهرت تجارب من قبيل مطعم مديني مؤثث بمينيمالية خشبية أنيقة، يقدم طبخ نساء الريف لزبائن بيروت مستحدثة، دعماً للطبّاخات في قراهن، وخدمةً لفئة قلما تأكل في البيت. واستضافت أقبية معاد ترتيبها، ورشات عمل من صنف تقنيات المناصرة، والوجه العمراني لبيروت، وحتى تاريخ مجلة "الهلال" المصرية وعلاقته بالتطور الثقافي والسياسي في المشرق. كما ظهرت ثقافة مطبخ "الفيوجن"، جنباً إلى جنب غاليريهات راح نجاح إحداها يشجع على افتتاح الأخرى، ومتاجر متخصصة في إعادة إنتاج "الفينتاج" وملصقات السينما القديمة العربية والغربية... حتى صارت الجميزة – مار مخايل، هي "الفينتاج" نفسه، تُنبش ذاكرتها القريبة، كفيلم قديم بالألوان، من تحت ركام رمادي اختلطت فيه حجارة المرفأ المنفجر بنيترات الأمونيوم، مع أشلاء التاج الذي ربما تحتار بيروت في لملمته هذه المرة.