وسط القاهرة بين نكتتين

أحمد شوقي علي
السبت   2020/07/18
مقهى زهرة البستان في وسط البلد
قبل أيام، كتب أستاذ المسرح ورئيس تحرير مجلة "فنون"، حاتم حافظ، تدوينة في صفحته الفيسبوكية عن وسط القاهرة، رسم خلالها صورة لأيامه فيها خلال التسعينات والهيئة الكاريكاتورية التي بدا عليها المثقف وقتها. ربما كان حافظ يسجل اعتراضه ساخرًا على زيف الهالة الثقافية لوسط البلد، في ظل تصدرها المجال العام، بعد اتهامات بالتحرش طاولت عددًا من المشتغلين بالأدب، وربما كان دافعه شخصيًا لمراجعة بعض من ماضيه، لكني رأيت في ما رسمه ساخرًا، صورة تشبه شكل المدينة الحالي، لكن الصورتين غريبتان عن وسط البلد التي عرفتُ.

نزلتُ إلى وسط القاهرة، من حي الزمالك، أجرُّ في يدي وعي الطبقة الوسطى وفهمها المحدود للفن، ونزوعها الطوعي للانضمام إلى الجماعة، أخوض الطريق عبر دليل يرشدني إلى منابع الأدب ورموزه، مثل أخ أكبر، أو معلم يملك سلطة الأخ الأكبر، وكان الجميع هناك يشبهوننا.

عرفتُ المجتمع المثقف، في ساقية عبد المنعم الصاوي، كبيئة خالية من الدخان والكحول والدهون والنشويات، وكل ما قد يعارض الدين والسياسة والإتيكيت، تمنح حيزها بالتساوي للأدب والفن التشكيلي والمسرح والموسيقى والخطاب الديني المودرن، وتتيحه لجميع طبقات الشعب الذين يستطيعون الوصول إلى نيل الزمالك، فينفق القادر منهم في ما يستطيع حضوره من حفلات موسيقى الأندرغراوند، ويتسكع من لا يستطيع ذلك، بين مقاعد الندوات في قاعتي النهر والكلمة والكافيتريا، وهو يحمل كوبًا من الشاي أو القهوة دون ما يسد جوعه، لأن إدارة المكان قد منعت تقديم البطاطس في أرغفة الفينو (أرخص ساندوتش كانت تقدمه الكافيتريا) بدعوى أنها تزيد الوزن.

كنت محررًا ثقافيًا، عمري 19 عاماً، أكتب في مجلة "الساقية الورقية" أشياء نافعة أحياناً، وأتعثر بين الشِّعر العامّي والقصة، ودليلي زميل في المجلة، يذاكر لي العَروض ويراجع معي قواعد اللغة العربية، ويسحبني من يدي إلى وسط البلد للمرة الأولى منذورًا لإنجاز مهمة. تقدم صديق له إلى لطلب يد فتاة ورفضه أهلها، وسيعقد قرانه عليها من دون رغبتهم، وكنت من المدعوين القلائل الذين يحملون بطاقة هوية سارية، لكني خفت أن أشهد على العقد، لم آت إلى وسط البلد متمردًا، وإن كنت أبحث عن ملجأ، فقلتُ أني نسيتُ هويتي، ثم جلست معهم في مقهى "عم صالح" بشارع شمبليون، والمسماة مجازًا على اسم نادلها.

نزلت إلى وسط البلد على اسم صاحبي، وكان يكتب نص التفعيلة، ويقول لي بينما ينفث دخان سيجارته، "اكتبْ: أشربُ السيجارة لأنك تشربها لا لتشير إلى مجازات التدخين"، ويأخذني من مقهى إلى آخر، ومن جلسات تشبهنا إلى أخرى تبدو أكثر شبهًا بنا، نحن الذين بدأنا النشر مع انطلاق فايسبوك، نبحث عن فرديتنا في جماعات: إرث حملناه مما رسخته الطبقة الوسطى، أو ربما، مما اختبرناه افتراضيًا في منتديات الإنترنت، وروابط ألعاب الفيديو والأفلام والكتب والمغنين، كنا نلتف حول تفردنا بما نهتم به. وفي وسط البلد 2008 وما تلاها حتى قيام "ثورة يناير"، كان ثمة منتدى كبير تتخلله أقسام أصغر، في هيئة دوائر تنمو على ما يشبهها من المقاهي، وتفاعلات ثقافية تستقر على ما ترسخ من مجالس الشاي والقهوة، حول كاتب كبير، أو دليل، أو ربما أخ أكبر، والتقطها خالد كساب، فصنع في صحيفة "الدستور" صفحة أسماها "ضربة شمس"، يقتبس من الأبنودي "عود درة وحداني في غيط كمون"، ويقدم لنا الحكمة تلو الأخرى والكاتب تلو الآخر، باعتبارهم تجليات ذلك العود الوحداني، فصدّقنا إبراهيم عيسى، وغنينا للشيخ إمام، ولعنّا مبارك، وبصقنا مع عباس العبد في وجه العالم، وحلمنا بيوتوبيا أحمد خالد توفيق... انشغل كتّاب التسعينات بقتل أبيهم، بينما بحثنا نحن عن أب.

صار الشباب يقرأون، وشَعَر كتّاب ما بعد الألفية -الذين يكبروننا- بالغيرة، فتسابقوا على صفحة "ضربة شمس" وتجمعاتها، يباركون حكمة خالد كساب، ليظهروا الواحد تلو الآخر مثل "عود درة وحداني" بين غيط ممن يقرأون، فيما أقطع الطريق وحدي بين شوارع وسط البلد، من سوق الحميدية، ومقهى صالح، وزهرة البستان، ومقاهي البورصة، إلى ندوة يقدم فيها كاتبٌ راسخ، أحد الشباب، أو مقهى يجلس فيه بينهم، ينادونه بـ"العم"، في حنين جارف إلى اعتراف أبوي بوجودهم.

هل كنت أصدق ذلك كله: عيسى وكساب وخالد توفيق وأحمد العايدي والدليل؟
كنت أبحث عن اعتراف، ومثلي الذين صادف حظي أن ألتقيهم، الحقيقيون والزائفون، الذين دفعتني الرغبة في الوجود إلى لقائهم.

لم تكن وسط البلد في ذلك الوقت نكتة تشبه ما يعرضه يوسف معاطي، من صورة للمثقف الغابر في أفلام عادل إمام، بل كانت تشبه ما يلوكه الذين سبقونا من عبارات: "نحن نعيش عصر غياب القضايا الكبرى"، يفلتون عبرها من رعونة ما يكتبون، بينما يلقون على كواهلنا أوزار ركاكتهم والذين سبقوهم، لكن من دون أب نقتله أو نعيش في كنفه، ومن دون حظ يتبقى لنا في ما هو آت، أو صلة بما مضى. لذلك لم نطلب سوى "الآن"، أن نقول ما نعرفه دون غيره، وأن نُسمَع. كنا نبحث فقط عن موطئ قدم في ظل وجود اقترفه غيرنا عبر سنوات طويلة من التثاقف والنضال الزائف والانتهازية، وكان بيننا أيضًا من يبحث عن نصيبه في ذلك كله.

كانت وسط البلد تشبه الذي حصدناه: "أصبح الشباب يقرأون"؛ إطراء صار من فرط تكراره وصمة. كانت تشبه ضحكة صفراء تحتفي بكل مكتوب زائف، لترسخ ريادتها المزعومة، احتفاء يساوي العدم، يساوي "خليهم يتسلوا". كان غضبنا كبيراً تجاه نظام مبارك، لأنه لم يكترث لوجودنا، واندفاعنا أكبر تجاه أي اعتراف بفرديتنا وفرادتنا.

ثم جاءت "يناير" ساحة واسعة للزفير، وأطلق كل منا صيحته الحقيقية والزائفة، فاكتشفنا أنهما مسموعتان كفاية دونما حاجة إلى اعتراف من أب أو دليل أو أخ أكبر. هذا ما فهمناه بينما لم يفهمه الذين كنا نستدل بهم، لكن أزاحتنا صيحاتنا إلى مناطق أبعد من وسط البلد.

هل عاشت "ضربة شمس"؟ هل ذُبنا في عصر القضايا الكبرى؟
غادرنا.
هل كانت وسط البلد تشبهنا؟
أزاحتنا صيحاتنا، أو ربما أعادتنا إلى حيث كنا. وأُفرغ المكان لآخرين، غرفة خالية من كل شيء سوى الجدران، كوجود اقترفه غيرنا عبر سنين طويلة من التثاقف والنضال الزائف والانتهازية، والصوت فيها رجع صدى، مكشوفًا، مثل نكتة قديمة غير قادرة على أن تدهش أحدًا.