كارثة سوريا الكبرى.. جيل كامل بلا تعليم وثقافة

علي سفر
الأحد   2020/06/07
وزير الثقافة محمد الأحمد يفتتح مع وزير التربية عماد عزب معرض كتاب الطفل الثاني
لطالما كانت وزارة الثقافة السورية، تعتبر تكوين عقل الطفل جزءاً من أشغالها الراسخة. المهمة بالنسبة لها قديمة، وتعود في تاريخها إلى ستينيات القرن الماضي مع وجود مديرية خاصة بثقافة الطفل، ومع بروز مجلة "أسامة" كواحدة من أفضل ما تصدره الوزارة من مطبوعات.

في الوقت نفسه، كانت وزارة التربية، وبحكم الاختصاص ترى نفسها أيضاً مسؤولة عن إعداد أطفال سوريا من جهة معارفهم الثقافية والفنية، لهذا كانت لديها مديرية خاصة بالمسرح المدرسي، وأخرى خاصة بالطلائع، والمقصود هنا (طلائع البعث) وهي منظمة "شعبية" أنشئت في زمن الأسد الأب، لتحاكي مثيلتها في كوريا الشمالية التي أعجب بها حين قام بزيارة صديقه كيم إيل سونغ عام 1974.

خارج هذه الأطر، كان من الصعب على الأطفال السوريين أن يتلقوا ثقافة مختلفة، وقد ظل الوضع على هذا الحال، حتى قدوم الأسد الابن ومحاولة زوجته تشذيب مشهدية السيطرة عبر تغيير الألوان العسكرية لألبسة الطلبة وجعلها أقرب لما هو سائد عالمياً! إضافة إلى محاولة تقنين تدخل المنظمات الشعبية (طلائع البعث وشبيبة الثورة) بسير العملية التربوية والتثقيفية! 
رغم ذلك كان من السذاجة الظن بأن هناك تحولاً في عقلية تعامل النظام مع هذين الشأنين، طالما أن الوضع السياسي في البلد قائم على سيطرة الواجهة الحزبية البعثية.

وقائع الثورة السورية كشفت كيف أن كل ما صنعته التربية البعثية من تأسيس ثقافي حزبي، ذهب أدراج الرياح مع أول صرخة حرية داهمت المنطقة العربية، وكان من المفارقات الرهيبة أن يعلن أطفال درعا كما هو معروف بداية الحدث السوري الطويل.

الهوة الواسعة بين الثقافة الرسمية التي تُلقن للطفل العربي وبين حاجياته المعاصرة فعلياً ولاسيما التفكير بالتغيير، كانت جزءاً من الإشكاليات التي واجهتها المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (ألكسو)، ولهذا كان من غير المستغرب أن تدعو المؤسسات الثقافية العربية العام 2016 للحاق بالمزاج العام في المنطقة العربية والذي يميل بحكم تأثير الثورات العربية للتغيير، ما يعني دفع المؤسسات الثقافية والتعليمية العربية صوب إدماج قضايا ملحة كحقوق الإنسان والحقوق الثقافية العامة في سياق العمل التعليمي والثقافي اليومي، وقد ظهر هذا الاجتهاد عبر خطة تمتد لعشر سنوات (2018-2027) حملت عنوان "العقد العربي للحق الثقافي"، وافقت عليها أعمال الدورة الحادية والعشرين لمؤتمر الوزراء المسؤولين عن الشؤون الثقافية في الوطن العربي بالقاهرة، ثم جرى إطلاقها في تونس يوم 22 يونيو 2018. وقد اعتبرت مبادئها وأهدافها ومشاريعها "إطاراً للعمل العربي المشترك من أجل دعم حقوق الإنسان من خلال الثقافة وتوظيفها في التنمية ودعم النمو الاقتصادي عن طريق تطوير الصناعات الإبداعية".

المشروع غير المُلزم من الناحية القانونية، إستند في صياغته إلى وثيقة أممية سابقة ملزمة هي العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، يرجع تاريخها إلى عام 1966 وقد سبق للدول العربية أن قامت بتوقيعها تدريجياً مع القليل من التحفظات، بينما قبلتها الحكومة السورية دون تحفظ بتاريخ 21 أبريل 1969.

بالتوازي زمنياً مع عمل المؤسسة الثقافية الرسمية العربية على خطة عمل تعتبر الحق الثقافي مكوناً أساسياً من منظومة حقوق الإنسان، وتعتبر أيضاً أن التربية والتعليم هما جوهر هذا الحق، كان فريق من الباحثين في المركز السوري لبحوث السياسات يضع لمساته الأخيرة على تقرير مرعب حول الآثار التي لحقت بالبنى السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية السورية بسبب "قوى التسلط الداخلية والخارجية"، حمل عنوان "مواجهة التشظي"، وحفلت صفحاته بترجمة دقيقة لمعنى قيام النظام السوري بشن حربه الدموية على الجمهور الذي خرج يطالب بالحقوق الأساسية التي ضمنتها له الدساتير الوطنية وأيضاً الشرائع الدولية!

أظهرت المعطيات الحجم المهول للكارثة في القطاع التعليمي، إن كان عبر حجم الفاقد من ساعات "التمدرس" لمرحلة التعليم الأساسية في المدارس السورية بين العامين 2010 و2016 (قدرت بنحو 24.5 مليون سنة، وبتكلفة مقدرة لهذه الخسارة بنحو 16.5 مليار دولار أميركي)، أو عبر التدقيق في مسائل ملحة كتسرب الطلاب من المدارس، وعدم التحاقهم بها، بسبب ظروف النزوح والانهيار الاقتصادي، الذي يدفعهم للتوجه إلى العمل لإعانة عائلاتهم.

إضافة إلى الخسائر في الكادر التدريسي، الذي عانى من الاعتقال والتهجير، بالتوازي مع تدمير قوات النظام والطيران الروسي للبنى التحتية التعليمية، واستغلال التنظيمات الإسلامية المتشددة لبعض المدارس وتحويلها إلى معسكرات تدريبية.
 
غير أن بؤرة الخطورة الأكبر في سياق المسألة التعليمية والثقافية، تتأتى من طبيعة ما يجري تدريسه للطلاب في المدارس السورية، فمع فرض كل طرف لمناهج تدريسية خاصة به، جرى "إقحام الأطفال في العنف وحرمانهم من تطوير مهاراتهم الحياتية والتعليمية الأساسية، وراوح هذا الحرمان بين حظر الالتحاق بالمدارس وتعزيز أفكار الكراهية ضد "الآخر".

النتائج التي أظهرها تقرير "مواجهة التشظي" الصادر عام 2016 تفاقمت في خطها العام في السنوات التالية، حيث أشار تقرير جديد أصدره المركز ذاته قبل أيام تحت عنوان "العدالة لتجاوز النزاع" وبشكل واضح إلى تفاقم الأرقام المؤشرة لحجم الكارثة وأيضاً إلى أن "حرمـان جيـل مـن السـوريين مـن حقوقهـم فـي التعليـم وبنـاء قدراتهـم يحرمهــم أيضــاً مــن المشــاركة الفاعلــة فــي إعــادة بنــاء مجتمعهـم" كما "قــاد اســتمرار النــزاع إلــى إيجــاد مناطــق منفصلــة ومعزولـة، تسـيطر عليهـا قـوى مختلفـة، فرضـت رؤيتهـا وأهدافهــا علــى المجتمــع المحلــي. وقــد انعكــس ذلــك فـي اسـتعمال مناهـج وطرائـق دراسـية مختلفـة تعمـق حالــة التشــتت، وتســتثمر فــي سياســات التمييــز القائــم علــى الهويــة".


فعلياً، كل الأرقام والمعطيات التي خرج بها هذان التقريران بوصفهما توثيقاً لواقع الحال، وكذلك التحذيرات التي تطلقها المؤسسات الأممية، وأيضاً المنظمات الدولية، كلها تبرز حجم التناقض بين العقل الرسمي العربي ومؤسساته الثقافية والتعليمية، وبين ما يجري مع الشعوب العربية، وعلى الأخص في الحالة السورية. 

لا بل إن التحذير من إمكانية الانحدار أكثر نحو الأسوأ، ولاسيما في المناطق المهددة من قبل النظام وحليفه الروسي! حيث نبهت منظمة العفو الدولية قبل ثلاثة شهور إلى ما ينتظر الأطفال السوريين في محافظة إدلب، المهددة بالاجتياح العسكري، مؤكدة على أن استهداف المدارس ورياض الأطفال المستخدمة لأغراض مدنية يعد بمثابة جريمة حرب.

المنظمة التي دأبت على رصد انتهاكات النظام في كافة مجالات حقوق الإنسان، لفتت إلى النمط السلوكي الذي اتبعه النظام في التعاطي مع الحقوق والقوانين؛ حيث واصل إظهار عدم اكتراثه المطلق بقوانين الحرب وحياة المدنيين. 

ولعل ما سبق يعيدنا إلى السياق ذاته الذي تغرقنا فيه الحالة السورية الراهنة، فالنظام الذي تعهد باحترام التزاماته وحماية حقوق شعبه المعترف بها عبر كافة المواثيق والعهود، بات مارقاً على كافة المستويات، إذ لم يقم بكفالة أي من هذه الحقوق، لأي أحد من الأفراد الموجودين في إقليمه والداخلين في ولايته، لا بل إنه كرس ثقافة الإلغاء والقمع والاضطهاد بسبب الرأي السياسي وغير السياسي، فضلاً عن خلقه لبؤر نزاعات مستدامة مبنية على الأصل القومي أو الاجتماعي، أو الثروة!