مصري في تظاهرة أميركية.. أو كابوس الهزيمة مرة أخرى

أحمد ناجي
الخميس   2020/06/04
تظاهرات لاس فيغاس (غيتي)

... ثم أني أصلاً لا أحب التظاهرات، لا أحب الهتافات الجماعية، وبعد عشر دقائق من الوقوف في التظاهرة، أجدني أتساءل ماذا أفعل هنا؟ وأظل أمشي، وأدور كمَن يعاين حدثاً بعيداً منه، رغم وجودي في قلبه. مع ذلك ذهبت إلى تلك التظاهرة وكان هذا يوم السبت 30 مايو.

كانت على بعد عشر دقائق مشى من منزلي في لاس فيغاس، ومن المفترض أن تجري أمام حديقة اعتادت سينا، ابنتي، اللعب فيها. فكرت أنا وياسمين أن نذهب باكراً إلى الحديقة لكي تلعب سينا ونلقي نظرة، ثم نعود إلى المنزل. قلت لنفسي، لتكن مشاركة رمزية في التظاهرة، بما يتوافق مع مسؤولياتي الجديدة كربّ أسرة ومهاجر حديث إلى بلد غريب مثل الولايات المتحدة.

ذهبنا إلى الحديقة باكراً، وفي الطريق لاحظنا تكاثر عربات الشرطة، حين وصلنا إلى الحديقة كان هناك حوالى 500 شخص أمامها وقد بدأت الهتافات والخطب. كانت الحديقة مغلقة، لذا وقفنا بعيداً لمراعاة تعليمات التباعد الإجتماعي في زمن الوباء. وحين بدأت الأعداد في التكاثر، قررنا العودة إلى المنزل خوفاً من الازدحام وخطر الوباء، خصوصاً في ظل وجود طفلة معنا. وما أن وصلت المنزل، حتى هاتفني صديقي هاريسون، ليخبرني أنه وصل إلى مكان التظاهرة ويسأل عن مكاني، فقلت له: ربع ساعة وأكون عندك.

ذهبت هذه المرة بدافع الفضول أولاً، وكمشاركة رمزية مع أصدقائي وأخوتي وأحبابي في هذه البلاد. ذهبت من أجل كل الأشياء الجيدة التي عرفتها وقابلتها في أميركا، وضد الأشياء السيئة. أخذت معي كمامتين واحدة وضعتها على وجهي والاخرى كاحتياط، مع مطهّر لليدين، نظارتي الشمسية رغم أن الشمس كانت تغرب، لكني قلت لعلها تفيد في إخفاء الهوية وهو أمر سأفصل سببه لاحقاً.
***
المعلومات الأساسية يعرفها الجميع وتحتل عناوين الأخبار. جورج فلويد أميركي من أصل أفريقي، لقي حتفه أمام الكاميرات وهو يستغيث بينما شرطي أبيض يثبته بركبته ضاغطاً على رقبته. الحادثة، من سلسلة حوادث استهدفت الأفرو-أميركيين. قبلها بأيام، قُتل رجلان من البِيض، أحمد أربري، الذي كان يمارس الرياضة، لأنهما "شكّا فيه"...

انفجر الغضب في معظم المدن الأميركية الكبرى. لم أتوقع أن يصل الأمر إلى لاس فيغاس حيث أعيش منذ حوالى العام. فمنذ بداية الوباء، أغلقت الفنادق والمطاعم والأماكن العامة، الأمر الذي كان له أثر مدمر في المدينة، فلاس فيغاس في الأساس، سياحية، ومتوسط عدد الزوار يومياً، 100 ألف سائح، ومع توقف السياحة دخلت المدينة في ظلام كئيب، ناهيك عن الآلاف الذين فقدوا وظائفهم، والضغوط النفسية التي زادت مع ضرورة المكوث في المنزل.

كل أربعاء، كان هاريسون، صديقي الشاعر، يمر بالسيارة مساءً، وأنزل لأقف معه قليلاً، محافظين على تعليمات التباعد الاجتماعي، أقصى تقارب أن نتبادل السلام بالكوع. يعمل أخوه طبَاخاً في واحد من أفخم مطاعم المدينة، ونظراً للإغلاق يأتينا هاريسون بقطع من "الستيك" البقري الفاخر أحياناً كهدية.

هاريسون شاعر تجريبي، محب للحياة والطعام والشِّعر، يعد لماجستير في الكتابة الإبداعية. منذ أشهر، بتنا نعيش طقس اللقاء الإسبوعي في أحد البارات، ومع إغلاق المدينة أصبحنا نلتقي على قارعة الطريق.

منذ أن عرفت هاريسون ألاحظ أنه لا ينجذب إلى الأحاديث السياسية، يكون أقل حماسة للمشاركة في الحوار حين يتجه الحديث إلى السياسية. ليس لديه أي حساب في أي شبكة تواصل اجتماعي، يستخدم الموبايل للمكالمات والرسائل القصيرة فقط. لكن، منذ بداية الوباء راقبتُ كيف ينمو الغضب داخله، قال إنه يتمنى لو كنا في العصور الوسطى ليأخذ سيفاً وعصبة صغيرة ويذهب لقتال الملك في قلعته، وننتهي من هذا الهراء.

انفجر غضب هاريسون بسبب تعامل الحكومة الأميركية مع وباء الكورونا، والأكاذيب، وتجار الوباء الذين استغلوا الأزمة وضاعفوا ثرواتهم مليارات فوق المليارات.

منذ وصلتُ أميركا في 2018، وهذا الغضب نلمسه بوضوح في الكثير من التفاصيل. غضب مكبوت لدى الجميع اتجاه الجميع، الفقراء ضد الأغنياء، والأغنياء ضد الفقراء والأعراق والأصول المختلفة ضد بعضها البعض. أذكر العام الماضي، بعد انتهاء التدريب في "الجيم"، جلست في الجاكوزي وبجواري شاب أبيض وآخر أفريقي، يتحدثان عن مزايا الأسلحة الشخصية المختلفة. سألني أحدهما عن رأيي في مسدس ما، فقلت أني لا أفهم في الأسلحة، فنظرا إليّ بدهشة. فسألتهما: ولماذا أهتم؟ فاندهشا أكثر، وردّا على سؤالي بسؤال آخر: لكن ماذا لو قامت الحرب الأهلية قريباً، ماذا ستفعل؟

ابتسمتُ ولم أعلّق. لدى الأميركيين تاريخ قصير نسبياً، محوره الأساسي في رأيي هو مسألة العبودية، وهي دائماً المحرك خلف التقلبات العنيفة في التاريخ الأميركي، سواء في الحرب الأهلية في القرن التاسع عشر، أو انتفاضة حركة الحقوق المدنية في الستينات. يحضر الحدثان بقوة في الذاكرة الجماعية، لذا فبعضهم يعتبر أن التاريخ يعيد نفسه، وكلما ازداد الاحتقان، برزت أوهام وتصورات الحرب الأهلية، كنموذج للسيناريو السيء الوحيد الذي يعرفونه. لكنهم لا يعرفون أن هناك سيناريوهات أسوأ بكثير من الحرب الأهلية، لا يجدي معها مسدسك، كالحُكم العسكري مثلاً، أو سيطرة حزب فاشي على الحكم. لذا، فحين يزداد الغضب والقلق، كما حاصل الآن، يتطلعون، مثل بقية الشعوب، إلى العود الأبدي للماضي، لكنه لا يعود. التاريخ لا يكرر نفسه، وإذا حدث، فكما يقول ماركس، تكون النتيجة مهزلة.
***
في الطريق إلى التظاهرة لملاقاة هاريسون، مررت بالباب الخلفي للحديقة، وشاهدتُ عمالها يفتحون الباب الجانبي لسيارات الشرطة لتركن داخل حديقة الأطفال. وصلت عند هاريسون في التظاهرة، كانوا في المكان ذاته، والعدد زاد قليلاً، ربما أصبحنا ألف شخص الآن. كنا نحتل الرصيف، وكلما زاد العدد ونزل البعض إلى الشارع، نبّهنا الآخرين للعودة إلى الرصيف.

التظاهرات في أميركا فعل سياسي محكوم بشعرة قانونية دقيقة جداً. فالحق في التظاهر وحرية التعبير في الأماكن العامة، مكفول بموجب الدستور، لكن قطع الطريق يعتبر جريمة، ما يعطي قوات الشرطة حق التدخل.

تسري ذبذبة في الأجواء أعرفها جيداً، اللحظة التي يلتحم فيها الأفراد وتتوحد مشاعرهم أو أصواتهم عند الهتاف. معظم الحضور شباب من خلفيات عرقية متباينة. ومع ذلك، فدينايمكية الحركة في التظاهرة، مثل أي تظاهرة حضرتها في مصر أو تونس أو المغرب، أو الهند.

نظرت حولي فانتبهت إلى أن الجميع يقف في تقاطع طرق لشوارع باتساع أربع حارات تقريباً. تنبه حسي الأمني وتوترت. هذه المرة كنت خائفاً جداً، أكثر حتى من تظاهرات القاهرة التي شاهدت فيها الدبابات تدهس الأجساد والجثث تتساقط.

منبع الخوف أني أقف في مواجهة نظام أمني جديد عليّ، لا أعرف تكنيكاته، وثانياً أني مهاجر بأوراق مؤقتة، فإذا إلقي القبض عليّ، فهذا قد يؤدي إلى تعقيد موقفي القانوني. ومن يدري، تحت إدارة ترامب، ربما يتم ترحيلي، أو أُتّهم بأني من أصحاب الأجندات الأجنبية، مثلما كان يحدث مع الأجانب في القاهرة الذين يُعتقلون في التظاهرات.

على أطراف التظاهرة، لمحت متظاهرين يرتدون ملابس سوداء كاملة، وأقنعة ونظارات شمسية، وتعلو رأسهم "بيريه" سوداء، ومن الخلف طبع شعار حركة الفهود السود، أشهر الحركات السوداء الثورية والتي تلقت على مدى سنين ضربات عنيفة متلاحقة، لكنهم موجودون دائماً بخبرتهم في الاشتباكات الميدانية. على استحياء أيضاً، لمحتُ أعلاماً أناركية، وأعلام حركة أعداء الفاشية "أنتيفا".

اعتليتُ عتبة خرسانية، وطفت بعيني مستكشفاً المنطقة. عربات شرطة تصطف في شارعين مما يترك لنا شارعين آخرين، إن هجموا. على سطح مبنى مجاور، مجموعة من الرتب يراقبون وينظرون إلينا، أحدهم أخرج موبايله وأخذ يصور المتظاهرين. استغربت الأمر لأن لدى الشرطة طائرات هليكوبتر تطوف فوقنا، ولديهم كاميرات قادرة على تمييز كل فرد من الألف متظاهر، والتقاط صورة واضحة لوجهه، لكن على ما يبدو فتكنيكات الشرطة واحدة، حتى لو امتلكوا الإمكانات الحديثة.

سأعرف بعد ذلك أن وزارة الداخلية المصرية بالفعل ترسل ضباطها في دورات تدريبية متعددة كل عام، ليتدربوا مع ضباط شرطة أميركيين، وأن حضور مثل هذه الدورات وسيلة أساسية من وسائل الترقي في الداخلية. يتدرب الأميركيون كذلك مع الإسرائيليين، وهكذا تنتشر شبكة معقدة وسرية يتبادل فيها ضباط الشرطة من أنحاء العالم، خبراتهم، حتى يصبح لديهم دليل تعامل موحد مع التظاهرات. قد تختلف القوانين والنظام السياسي، لكن حين يقف الناس في مواجهة الشرطة، فالتفاعل والنتائج واحدة. وهو ما أكدته الفيديوهات والصور التي شاهدتها على مدى الأيام الماضية. تكنيك تقدم القوات نفسه، ثم اختطاف المتظاهرين بشكل فردي، ما أن يمد ضابط يده ليمسك أحد الشباب، تقفز مجموعة من خمسة آخرين، وتشكل دائرة حوله حتى يسحبوه إلى سيارة الشرطة.

المختلف هنا هو الدور الذي يلعبه المحامون الحقوقيون، وشعرة القانون التي يدور حولها الجميع.

في جواري فتاتان ترتديان قميصين حمراوين كتب عليهما "الرصد القانوني". كل واحدة تحمل دفتراً، ولا تتوقف عن الكتابة فيه. سألتها من تكون؟ وماذا تفعل؟ فقالت إنهما وحدة المراقبة القانونية، لرصد أي انتهاكات للدستور والحقوق المدنية من قبل قوات الشرطة. التفتّ إلى الناحية الثانية، فوجدتُ سيدة ترتدي قميصاً أزرق، وعليه شعار الاتحاد الأميركي للحريات المدنية ACLU. وتوزع ورقة صغيرة في حجم كف اليد وهي تقول "إعرف حقوقك.. إعرف حقوقك".

في الورقة تعليمات؛ ماذا تفعل في حالة القبض عليك؟ ما هي حقوقك؟ كيف تطالب بها؟ يوفر الاتحاد دعماً قانونياً لمن يلقي القبض عليهم، كما تنشط مبادرات وجمعيات مدنية في دفع كفالات الإفراج عن المعتقلين، الذين بلغ عددهم حتى لحظة كتابة هذه السطور 4100 معتقل.
***
تزايدت أعداد المتظاهرين، ولم يعد الرصيف يستوعب كل الموجودين، فنزلوا إلى الشارع. رأيت ضباط الشرطة يصطفون في تشكيلة عسكرية أعرفها جيداً، ليس الغرض منها إغلاق الشارع، بل التقدم البطيء. نظرتُ إلى الأعلى فوجدت طائرات هليكوبتر، بعضها ملك محطات إخبارية وأخرى تابعة للشرطة. فجأة تملكني خوف فريد لم أعرفه من قبل، دفعني إلى حافة "البارانويا". بدأت سيناريوهات كابوسية تطوف في ذهني، فكرتُ.. هذه الطائرات تلتقط صوراً للجميع، فماذا لو التُقطت صورتي الآن؟ ماذا لو تعقبوني كما يتعقبون المتظاهرين؟ ماذا لو أضيفت لملفي الأمني، هل ستؤثر في طلب إقامتي؟

نظرتُ في الورقة التي أعطتني إياها السيدة من ACLU، كانت تؤكد على قدسية الحق الدستوري في التعبير عن الرأي، لكن آخر مرة وثقتُ في الحق الدستوري في حرية الرأي والتعبير في مصر، انتهى بي الأمر لقضاء سنة في السجن.

بدأ بعض المتظاهرين في الانتباه لتحركات الشرطة، تحولت الوقفة إلى مسيرة سلمية، سرت بضع خطوات معهم، لكن البارانويا والخوف تمكنا مني.

انزعجتُ من خوفي، حتى أني احتقرتُ نفسي، قلت لهاريسون سأنصرف الآن. ودّعت أصدقائي، وعدت إلى المنزل. جلست أمام القنوات المحلية لأتابع المسيرة وهي تطوف حول بيتى.
***
استيقظتُ في اليوم التالي على عشرات الرسائل من أهلي وأصدقائي في مصر يطمئنون عليّ. شاهدوا في الأخبار قوات الشرطة تطلق الغاز المسيل للدموع بكثافة وتستخدم العنف المفرط مع المتظاهرين. على الهاتف طمأنتُ والدي على الوضع، ثم سألني: "ما الذي يريده المتظاهرون؟"

فكرتُ لثوان، ولم أعرف كيف أشرحها له. من حيث أتيت، حين تتحرك التظاهرات، تحمل شعارات واضحة: عزل وزير الداخلية، إسقاط النظام، عزل الرئيس. لكن هنا، لا تجري الأمور بهذا الوضوح، ولا يتحرك الأميركيون بهذه الثورية. الشعار الأساسي المرفوع هو "لا عدالة.. لا سلام".

والأمر تجاوز طلب العدالة لجورج فلويد، بل العدالة لكل هؤلاء المتظاهرين. الشباب المكبل بديون تعليمه في عبودية أبدية، وبقية الأسر المكبلة بديون الرعاية الصحية والتعليم وأساسيات الحياة، في وضع مفجع لم أكتشفه إلا بعد الانتقال لأميركا. من حيث أتيت، الغالبية في مصر فقراء، لكن هنا الجميع مَدين.

العدالة للأفرو-أميركيين الذين ما زال ينزف جرح العبودية والتمييز ضدهم، ويصل لمرحلة القتل العشوائي البارد أمام الكاميرات. العدالة ضد البوليس الذين أصبحت أفعالهم محصنة منذ الثمانينات بموجب أحكام الدستورية العليا، حتى أنهم بعد أن يقوموا بالقتل أمام الكاميرات، يذهبون إلى بيوتهم، ولا يلقى القبض عليهم إلا بعد انفجار التظاهرات.

حاولتُ شرح ذلك كله لوالدي، لكن بصوت محبط، محبط من خوفي من الغد، ومن توقعي لأسوأ السيناريوهات الممكنة. فليست تكنيكات الشرطة الأميركية مشابهة للشرطة المصرية فحسب، بل المشهد السياسي بشكل عام.

المعارضة (الحزب الديموقراطي) خطابها بعيد تماماً من الشارع، ولا وجود لهم وسط ما يحدث. بالتالي، المشهد في الشارع هو غضب ثائر، وبلا رأس ولا اتجاه، وترامب وإدارته يستمتعون بإشعاله أكثر.

شاهدت هذا التكنيك سابقاً، استفزاز المتظاهرين وتشويه صورتهم وشيطنتهم، لخلق حالة فزع في البلاد، من أجل تجهيز المسرح لظهور الرئيس القوي الذي يستدعي الجيش ويستخدم القوة، ليعود الأمن والاستقرار عبر إسكات الجميع وإجبارهم على إلتزام بيوتهم، وهنا يظهر بمظهر البطل الذي أنقذ البلد من في الفوضى والعملاء والشيوعيين.

كلما فكرتُ في المشهد، لا أرى سوى سيناريوهات سيئة تنتهي بهزيمة الحراك وتحويل هذا الغضب إلى شيطان يقتله ترامب من على حصانه العسكري، ممسكاً بالرمح في يد والإنجيل في يد أخرى.