"الاختيار": هكذا تعمل البروباغندا..

شادي لويس
السبت   2020/05/30
أمير كرارة
الضجيج الذي أثاره المسلسل المصري "الاختيار" أثناء عرضه في رمضان، وبعده، يؤكد النجاح الاستثنائي والمتصاعد لسياسات الهيمنة الثقافية التي يتبعها النظام المصري، ويكشف المزيد عن آليات السلطة لتوظيف الفن في دعم خطابها، والأهم عن إيمانها بالفن.

فالبروباغندا تبدو هي الأكثر إيماناً به، بقوة تأثيره على الأقل، بقدرته على المشاركة في صياغة الوعي العام، إسباغ المعنى على اليومي، على إنتاج وترسيخ أو زعزعة طرق للعيش وطرق للرؤية وتراتبيات وهويات جامعة وتمييزية. الفن "الملتزم"، الذي يخجل الجميع اليوم من تسميته باسمه، يشترك مع الفنون الموجهة في قناعة أساسية، أن كل عمل فني، جيد أو رديء، له تبعات اجتماعية، ولذا، ففي القلب من كل ما هو فني، عنصر سياسي. الفنون "الخالصة"، الفن للفن بتنويعاته، المنسحب بعيداً من السرديات الكبرى، الفنون المعنية بالقالب على حساب المضمون، الفنون "الفردانية"، فنون الجماليات، فنون التسلية، فنون المتعة، جميعها، في الأغلب، لا تجهل العنصر السياسي من الفني، لكنها تتجاهله عمداً، تهرب منه، تتفاداه قدر المستطاع وبشكل منهجي، واعية لتاريخ طويل من طغيان السلطة عليها، وخوفاً من التماهي معها أو السقوط ضحية غوايتها أو قمعها. تنفي الفنون الخالصة، "النفعي"، كشرط أساسي للتعريف بنفسها، وفي سبيل ذلك تضع حداً فاصلاً بينها وبين الواقع، فكلمة "الخيال" هي الأكثر تردداً وبشكل شبه هوسي في نطاقات الفن من أجل الفن. في الجهة الأخرى، فإن الأكثر إيماناً بالواقع، ليست الواقعيات الاجتماعية، اشتراكية أو سحرية أو غيرها، بل السلطوية. الرقابة التي تفهم الإبداع بشكل حرفي، المحاكم التي تقيّم جنائياً أفعالاً شخصية في رواية، وتسجن كاتبها بناء على أحداثها. كل هذا لا ينبع من سوء فهم لا يعي الفوارق بين الفني والواقعي، أو يفهم الفن بوصفه واقعاً، بل العكس.  

فالأنظمة السلطوية تبدو أكثر تفهماً للبنية الرمزية للواقع، لدور الفن في إنتاجه وتشكيله، وليس مجرد مضاهاته أو التعبير عنه، تفهّم يصل إلى حد "تفنين" العالم الواقعي بالكامل. تسحق السلطوية أي حدود بين الواقعي والمختلق، الحقائق والأكاذيب، الفعلي والبلاغي، ولذا تبالغ البروباغندا دائماً في ادعاء واقعيتها. ويبدو مسلسل "الاختيار" نموذجاً مثالياً لهذا كله، فالهجوم الإرهابي على كمين البرث العسكري الذي يتناوله المسلسل، ليس العلامة الوحيدة على الواقعية. فمنتجو العمل اعتمدوا بنية تخلط بين المقاطع الدرامية والمقاطع الوثائقية، لمضاعفة الإيحاء بواقعية العمل، بمزاوجة واقعية المضمون مع واقعية القالب (الوثائقي). وجاء تأثير تلك الواقعية مدعوماً بسردية بسيطة، تضع الخير المطلق، ضابط الجيش أحمد المنسي، في مواجهة الشر المطلق، الإرهابي هشام عشماوي. وكان لتلك القطبية الحادة، مع النهاية شديدة التراجيدية، والمعروفة مسبقاً، باستشهاد ضابط الجيش، أن تمحو أي مساحة للتلقي النقدي، سواء للحادثة الحقيقة نفسها أو للمسلسل كعمل فني. فتحت تأثير فورة عاطفية واسعة أعقبت الحلقة الأخيرة للمسلسل، كان مجرد التلميح بقصور في استراتيجيات الحرب على الإرهاب يُهاجم بعنف. وبالقدر نفسه، كان التعليق السلبي على فنيات المسلسل، يتم التعامل معه بوصفه تعاطفاً مع الطرف الآخر. لكن هذا الخلط في ردود الأفعال، المتوقع مسبقاً، لم يتوقف هنا. 

فطاقة الغضب العميق والمتعاطف التي تفجرت بعد الحلقة الأخيرة، تمت موازناتها وترسيخ أثرها في اليوم التالي، بعدالة "انتقامية"، حين تسرب لوسائل الإعلام، مقطع فيديو مسجل لإعدام هشام عشماوي. كانت صور الجثمان المتدلي من سقف غرفة الإعدام الحقيقية وكأنها حلقة أخيرة وإضافية تأتي من خارج المسلسل، وتنتشر بكثافة في وسائل التواصل الاجتماعي، أحياناً مصحوبة بتعليقات تهاجم معارضي النظام ومنتقدي فنيات المسلسل على السواء.

فالبروباغندا لا تكتفي بترسيخ الخطاب السياسي بوسائل فنية، بل تذهب أبعد، بإضفاء قداسة سياسية على العمل الفني الذي يخدمها. وهكذا، يصبح انتقاد أداء ممثل في مسلسل، خيانة وطنية. ولا ينتهي الأمر هنا، فقبل يومين، انتشرت أخبار عن أن بطل المسلسل، أمير كرارة، الذي قام بدور الضابط الشهيد، تهرّب في الحقيقة من التجنيد ومثل أمام محكمة عسكرية لهذا السبب. ورغم أنه لم يكن من الممكن التأكد من صحة هذه الأخبار، لكن الذين تطرقوا إليها كانوا في الأغلب مدفوعين برغبة في الكشف عن التناقض بين الحقيقي والصورة، البطل والممثل الذي يقوم بدوره. لكنهم، بشكل أو بآخر، وقعوا في الفخ نفسه الذي أرادوا التخلص منه، أي تماهي نقد الفني مع نقد الواقعي. وبهذا أكدوا ضمناً على نجاح البروباغندا، ليس في إيصال رسالتها فحسب، بل أيضاً في جعل تبيانها للحدود بين الواقع وأي شيء آخر، أمراً في غاية الصعوبة، وكأن كل تلك الواقعية المبالغ فيها لا تهدف سوى إلى محو الواقع.