نظام الأوهام

روجيه عوطة
الأربعاء   2020/05/20
غرافيتي على ساتر البنك الحديدي: "سنعبر إلى حساباتنا.. ثورة" (غيتي)
لا سرديات أبدية، فهي، وككل الأشياء، تنتهي صلاحياتها. هكذا هو وضعها في لبنان حالياً، فبعدما وضعته على قيد العيش بعد حربه الأهلية، وصلت، وفي إثر الانهيار، إلى لحظة معينة: لحظة التحول إلى أوهام.

وهذا التحول لا يعني أن ثمة سرداً من ناحية، وتوهماً من ناحية أخرى. على العكس. الأول، وفي بدئه، ولأنه ينطلق من تخييل، ينطوي على الثاني، على قدر خفيف منه. كلما سار السرد، لا يعود للوهم أي أثر فيه، ينصرف منه إذا صح التعبير. أما حين يتجمد، فلا يبارحه الوهم، إنما يبدأ بالتهامه. على أن السرد، وحين يبلغ عقبه، وحين يرفض التلاشي، فهو فعلياً يغدو بمثابة التوهم بعينه.

النظام في لبنان قرر، وبعد انفجاره من داخله، أن يستمر في العيش على سردياته بعد انتهاء صلاحياتها، العيش على الأوهام. وأن يقرر فعل ذلك، فهذا، يهدد البلد من ناحية محددة، ناحية دفع النظام للغالبية الساحقة من ناسه إلى الاعتقاد بالأوهام إياها في أثناء تدفعيهم ثمن الانهيار. لكن، كيف من الممكن له دفعهم على اعتقاد بما لا يمكن الاعتقاد به، ليس لأنه من نسيج الوهم فحسب، إنما لأن الانهيار صار كبيراً، يعني صار واضحاً. فلا "السياسة" بمعناها المنصرم تعيد تدويره، ولا أعلمته، أي امتصاصه بالميديا، نافعة. أما تصويره مجرد خطأ تقني، فكل يوم بعد يوم يبين أن الآلة بأكملها أضحت من عداد الخردوات. كيف يريد أن يقنعنا هذا النظام بأوهامه فعلاً؟

الجواب، قاله الأمن، وقاله البنك، بيّناه مراراً وتكراراً: العنف، العنف فقط. فبواسطته، يحسب النظام أن في استطاعته أن يعيد قلب الأوهام سرديات، أن يعيد تأليفها سرداً. حاله هذه تماماً كحال أديب لا أدب له، لكنه، يريد إقناع قرّائه بأدبه بالقوة، وعندها، يصير عنفه هذا هو أدبه. لكن، لا أحد سيقتنع، لا أحد سيعود ويثق بأن السرديات، التي نام من دون التشكيك فيها ذات يوم ليستيقظ ويجد كل ماله صار في خبر كان، قد رجعت إلى الحياة، لا سيما أنها هذه المرة، وحين تطل عليه، تطل في أشكال منهكة، متقادمة. شكل السرد حين يصير وهماً؟ شيء ما، يصعب فهمه، يصعب التمييز إن كان جدياً، فعندها يحزن، أم أنه مجرد مزحة، وعندها يضحك. كما لو أن السرد يعيد نفسه مباشرةً كمأساة وكمهزلة على حد سواء.

فعلياً، تحول السرديات إلى أوهام، ومحاولة النظام أن يقنع بها عبر العنف، تبدو، وفي لحظة ما، كأنها لحظة إتمام لراهنيته. النظام اللبناني راهن، أي معاصر بالمعنى البارودي للكلمة، إذ يتطرف في العيش بعد زمن انتهاء سردياته الصغرى والكبرى، يذهب في هذا العيش إلى حده الأخير، حيث لا داعي لأي سرد، حيث لا يهم سوى الرسوخ في الوهم، الذي لا يمكن الرسوخ فيه على الإطلاق. ذهب النظام في راهنيته إلى مكان سحيق، وفي هذا المذهب، بدا سريعاً، سريع جداً. ربما، من الممكن التخيل أنه يوماً ما سيدخل في ثقب أسود، ويزول، لكنه، وقبل أن يفعل ذلك، ها هو ينصب فخاً.

فلأنه يمتلك قوة العنف، التي يحاول بها الاقناع بأوهامه، فهو يجر لا إلى مقاومته بعنفٍ، لا يستحوذ عليه سواه أصلاً، إنما يجر إلى محاولة دحض أوهامه تلك. إنه ينصب فخ دحضها، الذي يعيد إنتاجها، ويعيد إطلاقها، لا كأوهام، بل كسرديات، إذ ينشطها، ينقل إليها طاقة، ويشكلها حتى. دحض الأوهام يصير "تسريداً" لها، بحيث تجد فيه علة وجود، مكمناً، تنطلق من نظامها إليه كأوهام، وترجع منه كسرديات. لذلك، لا بد للوهم، لآخر تجسد لجثة السرد، أن يبقى وهماً. أما التعامل معه بالدحض، فهذا يجعل الاخير تعلقاً بنظامه، وبعثاً له مسروداً. فلتضمحل الأوهام بلا دحضها!