"La Casa De Papel".. أو دراما الطريق المستقيم

أحمد شوقي علي
الخميس   2020/04/09
عندما نكشف الخدعة، نكون أكثر قابلية للوقوع في شركها من جديد، لأننا نستمتع بالطريقة التي نُذكّر بها أنفسنا كم كنا بارعين في فضحها، أو بالأدق، نحن نتلهى بمعايشة المأساة عن إدراك فداحتها، وذلك حالي مع المسلسل الإسباني "La Casa De Papel".

توقظ مشاهدته، في داخلي، مثل غيري، ألم الثورات المغدورة، فمع كل نقطة يحرزها "البروفيسور" وطاقمه ضد النظام، يرسخ في وعينا أكثر، أن ما نشاهده ليس إلا حلمًا صعب المنال. ذلك التكرار المأساوي للنجاح، وما يخلفه من ثقة في قدرة الفريق على التغلب على جميع ما يواجهه من عواقب، يصير مع الوقت أكثر تعذيبًا من إحساسنا بالخسارة.

ما لا يعرفه "البروفيسور"، ومعه صناع "La Casa De Papel"، أن شطار العصور الوسطى، علي الزئبق وزُمرته، و"روبن هود" الإنكليزي، لم يكونوا من عموم الناس يثورون على الظلم فيحالفهم النجاح أو الفشل، وإنما كانوا أبطالًا خارقين يوفرون على البسطاء عناء مقاومة الديكتاتور، وينجحون لأنهم لا يملكون نقاط ضعف تؤرقهم، ويفشلون إذا تكشف لهم ضعفهم في حب عابر أو عاطفة إنسانية ألفوها تجاه غيرهم. أما البروفيسور، فقد جمع أعضاء فريقه اعتمادًا على نواقصهم، ليكونوا أشبه في ضعفهم وتقلبات عواطفهم بالشعب المقهور، منهم إلى منقذيه. كان يريد، وهو على رأسهم يشبه قائد الثورة المستنير، أن يضم الشعب إلى جانبه في معركته ضد النظام، لكنه ورغم ذلك استطاع، مثل الأبطال الأسطوريين، أن يعبر بهم، في طريق مستقيم، إلى النجاح، وهو طريق لم يستطع القدر نفسه أن يلويه!

دراما الطريق المستقيم
لا تشويق في المعرفة، كما أن الأمل لا ينبني على يقين، لكن الخطتين اللتين أعدهما "البروفيسور"، على مدار 31 حلقة، هي مجموع الأجزاء الأربعة التي صدرت من المسلسل حتى الآن، لم تعترفا سوى بطريق واحد فقط للنجاح، رسمه البروفيسور بعناية. يقف فريقه في بدايته وينتظرهم النصر في آخره، وما محاولات النظام إلا عثرات لتجعل فترة عبور ذلك الطريق أطول ليس أكثر، لكنها لم تضطره أبدًا إلى الحياد عن طريقه وتغييره إلى آخر لم يألفه.

في الجزء الأحدث مثلاً، يكشف الضابط لـ"لشبونة" عن رسالة "البروفيسور"، قبل لحظات قليلة من إذعانها للمحققة بالاعتراف على الفريق، فتعدل عن قرارها وتعود الأمور مرة أخرى إلى نصابها الصحيح وكأن شيئًا لم يكن، ناهيك عن أن هذا الضابط سيكون الخيط الذي سيقود المحققة "سييرا" لاكتشاف مكان "البروفيسور"، وهي نفسها الحبكة التي قادت إلى مخبئه في السرقة الأولى.


أما الطبيب الباكستاني، والذين كانوا في الحلقة الأولى من الموسم الرابع يتخوفون من عدم إمكانية الوصول إليه، فلم يُضِف ظهوره شيئًا بعد انقطاع الإنترنت، فيما سارت عملية استخراج الرصاصة من جسد "نيروبي" على خير. وكذلك لم تضف محاولة خنق "غانييدا" لـ"نيروبي" شيئًا للأحداث، فقد تم إنقاذها في اللحظة الأخيرة كالعادة، ولم يؤدّ ذلك لتدهور حالتها الصحية مثلاً، وكانت أي من الحوادث التالية كفيلة بتغيير مسار الأحداث أو إخراجها عن إطارها إلى منحنى مجهول، يضيف إلى الأحداث بعض الشك والإثارة، وربما الأمل!

إنسانية الهواة
عندما بدأ "البروفيسور" في جمع فريقه، بداية القصة، أخبرهم أنه اختار كلاً منهم لأنه الأفضل في مجاله، ولأن صنّاع المسلسل كانوا في حاجة لإشعار المتفرج بإنسانية اللصوص، فقد تعمدوا المبالغة في إظهار تهورهم وسذاجتهم وأنانيتهم، وكأنهم في خلوة وليسوا في حادث سطو ضخم. وقد حقق ذلك غرضه، في الموسمين الأول والثاني، لكن تكراره مع الموسمين الثالث والرابع بدا ممجوجاً، وكان أي فرد من أفراد الفريق، لو تخلى عن صبيانيته مرة، لاستطاعوا تنفيذ مهمتهم بصورة أسهل مما بدت عليه، لكن صنّاع المسلسل ومثلهم اللصوص، لا يتعلمون شيئًا من أخطاء الماضي، على العكس هم يستثمرونها لإعادة إنتاجها كما هي من دون تغيير يذكر.

لنتخيل مثلا أن "طوكيو" لم تكن أنانية ولم تنس الاتصال بـ"ريو"، بعدما هربت من الجزيرة الآمنة، فهل كانت ستضطر العصابة إلى السطو على "بنك إسبانيا"؟!

لا شيء حتمياً يدفع الأحداث إلى التطور قدمًا، سوى نزق أفراد العصابة، وصبيانيتهم التي لا تتناسب بأي صورة من الصور مع لصوص كانوا محترفين أو صاروا محترفين بعد خوضهم عملية السطو على دار العملة الإسبانية في الموسمين الأول والثاني.

قيم "نتفليكس" أهم من المنطق
في أي عمل إبداعي، عندما ينصرف نظر الفنان إلى القيمة الأخلاقية لا الفنية، يتخبط، وذلك ما حدث مع صناع المسلسل الذين أغرتهم القيم الثورية للقصة، بإضافة قيم جديدة تدعم قضايا أخرى على حساب الدراما. لكنها لم تبد مقحمة عليها فحسب، وإنما جافت في الوقت نفسه منطق السرد خلال أحداث المسلسل.

فاستخدام شخصية متحولة من رجل لأنثى، هو أمر محمود لدعم العابرين جنسيًا، لكن الطريقة التي دخلت بها تلك الشخصية إلى الأحداث غاية في الغرابة. فـ"موسكو" الذي لقي حتفه في الموسم الثاني من المسلسل، يظهر في مشهد "فلاش باك" في الموسم الرابع، ليقترح على "البروفيسور" إضافة فرد جديد إلى العصابة، لتنفيذ عملية السطو على دار سك العملة، وهو ما لا يقبله الأخير سوى بعد أن يقنعه "برلين" بأهمية ذلك الفرد الجديد كعَين للفريق بين الرهائن فينبههم في حالة حدوث أي انقلاب عليهم. ويذهب "البروفيسور" و"موسكو" و"دنفر" (الأمر الذي يعني حدوث ذلك في حياة موسكو) لاستقبال ذلك الشخص، ليكتشفوا أنه أصبح أنثى وليس ذكرًا، وكل ذلك كان سيبدو منطقيًا إن ظهرت تلك الفتاة ضمن الفريق في حادث السطو على دار السك، وليس في حادث سرقة بنك أسبانيا الذي أعقبها والذي لم يكن مطروحًا من الأساس، أم أنهم ضموها إليهم وجعلوها تنتظر في الفراغ كل تلك الفترة لعله يظهر في المستقبل القريب أو البعيد مخطط سرقة جديد فيحتاجونها فيه؟!

غير أن تلك الخطوة العجيبة لإعادة "موسكو" من رقاده مرة أخرى إلى الشاشة، لم يكن ثمة هدف واضح منها، سوى إقحام ذلك المشهد غير المتصل بالدراما، الذي خرج إليه السرد "فلاش باك"، والأحداث في ذروتها، لتظهر الفتاة و"دنفر" يتحدثان عن ميولها الجنسية قبل عملية التحول!


أما "نيروبي" الشغوفة بالعثور على ابنها الوحيد، والتي ضحت بسلامتها الشخصية في نهاية الموسم الثالث، فقط لتراه، فإنها تظهر في الموسم الرابع وهي تترجى "البروفيسور" كي يتبرع لها بحيواناته المنوية، ليصبح عندها أطفالاً كثيرين، تملأ بهم العالم وترعاهم، متناسية تماماً ابنها وما رسخته خلال ثلاث مواسم من رغبة قاتلة في العثور عليه بعد أن حرمتها السلطات منه، لكن يبدو أن ذلك في نظر صناع الدراما أقل إغراءً من استقدام أمّ عزباء إلى عملهم!

حادثة أخيرة لا تقل غرابة عن سابقتيها، تتعلق بـ"أرتورو رومان" مدير دار سك العملة الخسيس، والذي لم يكن في حاجة لخصال جديدة تكشف وضاعته، حيث أسند له صنّاع المسلسل نقيصة أخرى، كمغتصب معتل نفسيًا، يتحرش بإحدى الرهائن بعد تخديرها، قبل أن ينكر ذلك أمام باقي الرهائن ويتهمها بالكذب والافتراء. فهل يمهد صناع العمل من خلال تلك الإضافة، لتحسين صورته في الجزء المقبل، مثل "برلين" الذي أظهر ميولاً بيدوفيلية واضحة خلال الجزأين الأول والثاني، ثم انتهت حياته كبطل ضحى بنفسه في سبيل نجاة باقي أفراد فريقه؟ أم أن "نتفليكس" تريد غسل يدها من أخطاء "برلين" بالانتقام من "رومان"، فالمعروف أن الشبكة ليست هي المنتجة الرئيسية للمسلسل وإنما حصلت على حقوقه بعد نجاح موسمه الأول.

إدراك الأبطال
لا أتبنى الصوابية السياسية في الحكم على أي من "برلين" أو "رومان" وإنما أتساءل عن جدوى تلك الإضافات وفقًا لمنطق الأحداث.
وفي الواقع لم تكن إضافات صناع المسلسل كلها مضرة بالدراما، حيث إنهم أخيرًا، اتخذوا الخطوة الصحيحة لإنقاذ عملهم من الوقوع في ملل أبدي، عندما فضلوا الانحياز إلى صورة البطل الشعبي الخارق التي تناسب تمامًا طريق الدراما المستقيم الذين خططوا له منذ البداية، على استمرارهم في تقديم صور الضعف الإنساني في تقلباتها العاطفية غير المتوقعة والتي لا تستقيم أبدًا والمضي قدماً على أي خط ثابت من دون أن تتعرج في انعطافات صاعدة وهابطة وملتوية لتصل إلى هدفها النهائي، وهو الأمر الذي يظهر مع الحلقة السادسة، بعد وفاة "نيروبي" وقرار البروفيسور العودة مرة أخرى للصورة الآلية التي ظهر عليها في الحلقات الأولى من العمل، تلك التي لا تأبه مطلقاً للروابط الإنسانية وما تصنعه من نقاط ضعف تعرقل الأبطال.