إيطاليا تكتب

رشا الأطرش
الخميس   2020/04/16
الممثلة صوفيا تاغليوني تقف أمام مصور فوتوغرافي، عبر اتصال بالفيديو، فيما يستمر الحجر المنزلي في إيطاليا (غيتي)
إيطاليا الآن رائدة في تكريس نوع كُتُبيّ وأدبيّ جديد. أصبح وباء الكورونا طرازاً كِتابيّاً، وإيطاليا تُصدِّره، ربما مثلما صدَّرت للعالم من قبل، موضتها ومطبخها، قهوتها وفاتيكانها، وحصتها الأثيرة من تاريخ الفن والسينما. بل ومثلما صدَّرت، قبل الكتب بقليل، "كورال الشرفات" والحفلات الموسيقية عبر الانترنت. 


لكتب الكورونا في إيطاليا اليوم ما يمكن وصفه بخطّ إنتاج، الذي تخطى مرحلة مقالات المثقفين والأدباء والشعراء في الصحف والمواقع الإلكترونية، والمقابلات المطولة مع فلاسفة وعلماء اجتماع.

الفيزيائي والروائي، باولو جيوردانو، والذي نالت روايته الأولى "عزلة الأعداد الأولية" ("عزلة الأحبة" في النسخة المترجمة للعربية) اعترافاً نقدياً وجوائز وحققت مبيعات لافتة، أصدر ما يشبه اليوميات والتفكرات، في عيش إيطاليا للكورونا، بعنوان "كيف تعمل العدوى"، والكتاب سيصدر في أميركا قريباً، وقد تُرجم بالفعل إلى 20 لغة وصدر في بريطانيا.

روبيرتو بوريوني، طبيب ومؤلف شهير، أصدر "فيروس.. التحدي الكبير"، حيث يفند الأوبئة وكيف تُشكّل الحضارات أو تتذاكى عليها. وزير المالية السابق، جيوليو تريمونتي، أجرى تحديثاً لكتابه عن العولمة ومكامن ضعفها، في ضوء الوباء المستجد. وأصدرت دار النشر الشهيرة "غارزانتي"، أنطولوجيا من 26 مقالاً وقصة قصيرة من الحجر المنزلي، هي مساهمات أسماء أدبية معروفة، بعضها "ركّز على الدموع التي لا يمكن إيقافها، وقوى الطبيعة التي تذيب تلك العقدة في الحَلق.. بعضهم يعترف بأنه لم يصدّق كل شيء في البداية، والبعض الآخر أعطى الحيوانات أصواتاً، وهي سعيدة بأن كل هذا صحيح وحقيقي".

ثمة الكثير مما يجدر التوقف عنده في هذا كله، في أحد أكثر البلدان معاناة من الجائحة المستجدة. البوح، تدوين التجارب، الكتابة عن الشخصي المُمثّل للعام، الخيال المغمّس بالذاتي والكَوني في آن. إستنبات إضافي للبذور المنثورة، مشاعرَ وأفكاراً سريعة، في السوشال ميديا، ومن قبلها مواقع التدوين اليومي. الفرد "العادي" كاتباً، والكاتب فرداً "عادياً" يقرأه الملايين. رأينا ظواهر مشابهة في زمن قريب. الثورات العربية أفرزت كتاباتٍ بالكيلو، على ما يُقال تندّراً، واشتعل السجال حول تلك المسافة التي يجب (أو لا يجب) أن تفصلنا عن الأحداث التغييرية الكبرى، قبل الشروع في الكتابة عنها، أدباً ووجدانياتٍ وسيناريوهاتٍ روائية. أنكتبُ عما يشقلب حيواتنا ومصائرنا وسلوكياتنا، فيما لا تزال الانقلابات طازجة؟ أم ننتظر مآلاتها، وفهماً أعمق لدينامياتها؟ أتلغي كتابةٌ، كتابةً أخرى، أم تكملها، أم تسود عليها؟ الأولى تُرى كتفريغ لشحنات عاطفية وفكرية خانقة إلى حين سكبها، الآن وهنا. والثانية يتم التعامل معها كإدراك مستمهل هادئ، نضوج الانفجارات في دواخلنا، خمودها أو ترويضها في العقل والقلب والمعدة، بما يفضي إلى استنتاجات جديرة بالتراكم. وذلك، استعداداً لما سيليها، أو حتى لتجمّدها عند لحظة قِيامية، سياسية كانت، اقتصادية، اجتماعية، أو – كما في حالة الكورونا – لحظة إعادة التدوير لما كنا نظنّه بقاء البشر، تطوّر الحياة أو نكوصها.

ولعل تجربة أدبيات ثورات "الربيع العربي"، ومن قبلها مئات المحطات المفصلية في المرويّة الإنسانية، أثبتت أن الكتابة كالزمن، سيالة بلا سدود، بِرِضانا أو رغماً عنا، هي أداة وحاجة، سبب ونتيجة، ومهما حاولنا ضبط فروعها ووضع ملصقات التصنيف على أغلفتها الورقية والافتراضية، فإنها تتمرد وتغلبنا، تهزمنا بأيدينا، ولا تنتصر إلا للتاريخ. التاريخ دوماً جائع، ولا يستكين في طلب المزيد. فالآتون من بعدنا، سواء بعد جيل أو بعد قرن أو بعد حقبات، سيبحثون عنا، وسيسعون إلى معرفتنا، وسيريدون أن يكونوا كمالتنا، أن ينتموا إليها أو يجعلونا ماضيهم، ولن يجدوا إلينا سبيلاً غير ما دوّناه، أياً كانت قوالب التعبير والسرد، والكتابة من أمّهاته. الموضوع يتجاوز كتّاباً "يقطفون" رهجة الأزمة قبل أن تبلى، إن كانت هذه الأزمى ستبلى، ويذهب أبعد من دور نشر تبحث عن رواج لحظيّ وأرباح آنية.

العالم، في أزمة كورونا، يستعيد آداب الأوبئة وسينماها وأساطيرها وتصويراتها، من أزمنة سحيقة ومن الأمس القريب، من طوفان نوح إلى طاعون كامو، وما قبلهما وبعدهما، وما بينهما. لأننا في حاجة إلى سياقات. في حاجة حيوية إلى المعنى الذي لا تقوى العلوم الجرثومية، والمنحنيات الإحصائية وخبرات البيئة والصحة العامة والبورصة، على تقديمه كاملاً. لكن هل يبدأ المعنى من الذات؟ أم ينتهي فيها؟ هل صارت مقولة "الروائي الذي يولد من كتابة قصته الشخصية" كليشيه ممجوجاً؟ أم أن تلك الكبسولات الإنسانية المكثفة، المسمّاة منازل وحجراً الآن، تعيد اختراع فن الكتابة بالتأكيد على ما لم تخترعه. إيطاليا تحاول الإجابة، والمحاولة شهية مثل البيتزا والجيلاتو، مقلقة مثل عدّاد الموتى في شريط أخبار كورونا، حزينة وشاعرية مثل ساحات روما الخاوية.