السياسي الكردي صلاح الدين دميرتاش.. أديباً في السجن

نزار آغري
الخميس   2020/03/05
متهم بالإرهاب
صلاح الدين دميرتاش هو زعيم حزب الشعوب الديموقراطي الذي يمثل، إلى حد كبير، أكراد تركيا. نال الحزب الملايين من الأصوات في الإنتخابات ودخل البرلمان. لكن ليس طويلاً. في بلد ينظرُ إلى الأكراد بوصفهم أعداء أبديين ويعتبر اللغة والثقافة والتاريخ والميثولوجيات الكردية محرّمات لا يمكن ملامستها، لا يعقل أن تمضي اللعبة، لعبة التظاهر بالتسامح والانفتاح، إلى نهايتها. اعتقل النواب الأكراد وسُجنوا وأغلقت الجمعيات والنوادي والصحف الكردية، التي سُمح بها في موسم البحث عن مكان داخل أوروبا. اعتقل صلاح الدين دميرتاش أيضاً. هو في السجن منذ 2016، والتهمة: الإرهاب.

كيف يمكن أن يكون رئيس حزب مرخص، إرهابياً؟ هذا سهل في تركيا. أن تتحدث عن الحرية والحقوق والثقافة واللغة للأكراد: الإرهاب.

هي تهمة تلصق بكل من يدلي برأي يخالف المنظر الدولتي في ما يتعلق بالمسألة الكردية. كتاب وصحافيون ومغنون ورسامون ونقابيون ومحامون، من تركيا ومن خارجها، زج بهم في السجون بهذه التهمة.

التهمة التي وجهت إلى دميرتاش في محاكمة جرت في محكمة باكيركوي في اسطنبول هي: "تأسيس وقيادة منظمة إرهابية. الدعاية لمنظمة إرهابية". بالرغم من أن هذه "المنظمة الإرهابية" فازت بعشرات المقاعد في البرلمان.

ماذا يفعل المرء في السجن؟ يمارس الإنتظار. والانتظار طويل وممل. فما السبيل إلى قهره؟ كيف يمكن التخلص من ثقل الفراغ؟

بالأحلام والرسم والغناء واللعب والرياضة و… الكتابة.
الكثير من الأدباء الأتراك كتبوا أعمالهم في السجن: ناظم حكمت، ياشار كمال، شوقي سوسيال، أحمد عارف، أورهان كمال، أحمد تانبينار، سعيد فايق، أصلي دوغان، وغيرهم. يندر أن تجد كاتباً تركياً لم يدخل السجن.

في هذه اللحظة التي أدون فيها هذه الكلمات يقبع العشرات، بل المئات، من الكتّاب والصحافيين والفنانين الأتراك، والأكراد بالطبع، في السجون التركية.

صلاح دميرتاش سياسي، طبعاً، لكنه، قبل أن يخوض في السياسة، كان فناناً. يعزف ويلون ويدوّن الأغاني.

السياسة كانت تسرق وقته وتبعده عن هواجسه الخاصة. بدا السجن وكأنه جاء ليحرره من ذلك العبء. منحه الحرية. حرية أن يفكر ويكتب.

كتب قصصاً قصيرة وأرسلها إلى خارج السجن، فنُشرت في مجموعة بعنوان "سحر". 
هذا هو العنوان التركي للمجموعة، وكلمة سحر بالتركية، "ساهار"، تعني الفجر. وهي تستخدم كإسم علم يطلق على المولودة الأنثى. "سحر" هي بطلة إحدى قصص المجموعة. 
اثنتا عشرة قصة، كتبها دميرتاش في سجن أدرنه، في أقصى الشمال التركي، عند الحدود اليونانية، البلغارية.

ترجمت المجموعة إلى 22 لغة. نالت جائزة نادي القلم الإنكليزي، ووصلت إلى اللائحة القصيرة لجائزة ميديسيس الفرنسية. والطبعات الإنكليزية والفرنسية والإسبانية والإيطالية، حملت عنوان "الفجر". 

مورين فريلي، التي ترجمت أعمال أورهان باموك وأليف شافاق، كتبت مقدمة للطبعة الإنكليزية للمجموعة. كتبت بإعجاب شديد عن الأسلوب الأخاذ والتقنيات السردية التي لجأ إليها الكاتب، فبدا أديباً ناضجاً يتكئ إلى موهبة أكيدة وخيال غني.

يتوقع القارئ أن تكون القصص مرافعات سياسية وبكائيات عن الظلم والقمع والسجن. لا. هي ليست كذلك.

هناك هاجس سياسي، بالطبع، غير أنه يتسرب هادئاً بوصفه انشغالاً إنسانياً وهماً من الهموم التي تثقل كاهل الملايين من البشر، مثله مثل الحب والشوق والفراق والغربة والفاقة والحرمان. بل ربما أمكن القول إن السياسة، تكمن، في الكثير من الأوقات، في جذر هذه الأشياء، وفي ثنايا العيش اليومي للبشر الذين شاء القدر أن يعيشوا في أمكنة تسود فيها المظالم والبؤس والقمع والبطش المجاني.

عزلة السجن ووحشته وما تفرضه من انقطاع عن العالم الخارجي، بضجيجه وألوانه، تدفع بالسجين إلى أن يغوص في دنياه الذهنية. أن يسبح في مياه ذاكرته. أن يستحضر ماضيه. أن يلون حضوره بأطياف وجوه غائبة.

تتكئ القصص إلى ذاكرة ملونة تشع بألوان الفصول الأربعة، وتنهض عبر كتابة غير مفتعلة، خالية من الصراخ والتهويل، ومسنودة إلى لغة سليمة وهادئة، ومسلحة بتقنية سردية جذابة. 
يقف القارئ أمام موهبة كتابية واضحة تفلح في الإتيان باللقطة المدهشة والعبارة الأنيقة والإيحاء الذكي.

بعيداً من العالم الداخلي للسجن، حيث النزيل مقطوع عن العالم، فاقد لحريته، محروم من إرادته، وما يخلقه ذلك من ضغط نفسي وجسدي، ينشئ بالكتابة حبلاً قوياً يمده من نافذته ويتشبث به ليهرب. يهرب بعيداً ويمضي راكضاً في أزقة المدينة وحقول القرية.
يهرب من المكان، السجن، ومن الزمان، لحظة سجنه، ويستعيد المكان الذي يتوق إليه والزمان الذي سبق أن عاشه.

تشغله الأحوال هناك، خارج السجن. تهمة مصائر الناس. تتزاحم في ذهنه الأسئلة عن الحياة والموت، الفرح والكآبة، الكره والحب. يعود في ومضات فلاش باك، خاطفة، إلى مرويات المحن والنهايات القاتمة، لا سيما تلك التي تلف المرأة، وتحول حياتها إلى جحيم.   
في قصة "سحر"، تذهب سحر، الفتاة الصغيرة  في عمر المراهقة، ضحية جريمة بشعة لما يسمى جرائم الشرف. الزميل الذي تعمل معه في المؤسسة الحكومية يخدعها حين يدعوها إلى موعد خارج العمل. يدعو صديقين له، ويقوم الثلاثة بالاعتداء عليها واغتصابها، ثم يتركانها غارقة في دمها. يعلم أهلها بالأمر، فماذا يفعلون؟ يلقون باللوم عليها، هي الضحية. لقد لطخت شرف العائلة. وشرف العائلة لا يغسل إلا بإزالة العار، بالقتل. الأب أصدر الأمر، وأبناؤه تولوا التنفيذ.

"ذات مساء سرق ثلاثة رجال أحلام سحر. ذات مساء سرق ثلاثة رجال حياة سحر". 
هي ذي فظائع المجتمع البطريركي، الذكوري. عنف الرجل الذي يرى شرفه متجسداً في جسد المرأة التي ينبغي عليها أن تدفع الثمن، أياً كان الموقف. سواء ارتكبت ما يعتبرونه عاراً أم وقعت ضحية اعتداء.

وتستند قصة "الرجل في الداخل"، على حوار متخيل بين الرواي وزوج من السنونو أقاما عشهما الزوجي في رواق السجن، مقابل زنزانة الراوي النزيل. زوج السنونو، الذكر، يتصرف بعنجهية وغرور، يتضايق من المساعدة التي يقدمها النزيل للأنثى لترتيب عشها وتهيئته.
حين يأتي موظفو السجن للتدخل في شأن العش، تقاوم الأنثى. ترفض. إنها تقف إلى جانب النزيل، في حين يميل الزوج إلى جانب موظفي السجن.

قصة "نازان عاملة التنظيف" هي مأساتها. ربما مأساة كل شخص في تركيا، إذ يمكن لأي كان أن يتعرض للاعتقال والملاحقة في أي مكان وفي أي لحظة. في تركيا ضريبة المرأة والأكراد مضاعفة. 

في مقابلة أجرتها صحافية فرنسية معه في السجن، يقول دميرتاش إنه إذا ما نال حريته وخرج من السجن فسيكون "أكثر إبداعًا"، وإذا ترتب عليه الإختيار بين الأدب والسياسة، فسيختار الأدب "بلا تردد".