ركامُ بيوت وقبور.. بغلٌ يحتَرِقُ في الجُرد

محمد أبي سمرا
السبت   2020/03/14
أحدُهم دفعه تيهُهُ الغراميَّ بها إلى محاولة انتحار.
ما الذي يفسِّر دفنَ موتى هذه القرية الجردية عراةً على تراب ضئيل في قبور كالأقبية؟ 
هل يفسّرُه أن ما وصلهم من دين التوحيد في تلك الشعاب الجردية العاصية، لا يتجاوز كلماتٍ قليلة يردِّدونها ببغائيًا، ممزوجةً بخرافات وثنيتهم؟ 

أم يفسِّرُهُ اقتداؤهم بالمسيحيين الأقدم زمنًا في لجوئهم إلى شعاب هذا السفح الصخري المنحدر عموديًا إلى الوادي السحيقة الوعرة، واستيطانهم عليه؟
قريبةٌ مقبرة المسيحيين من مقبرة المسلمين. وقبورها حجريّة كبيرة كلها. وليس من قبرٍ فيها إلا من حجر. وعلى خلاف مقابر المسلمين بنوها متباعدةً، كأنها بيوتٌ صغيرة تحت شجرات جوز معمِّرة على ضفة النهر أسفل الوادي، غير بعيد من مغارة نبع العين، ويعلوها شقيف صخري شيدوا عليه كنيسة بين بيوتهم الحجرية القديمة.

وأُهملت مقبرة المسيحيين. ظلّت على حالها. ونادرًا ما يمر قربها أحد. أما مقبرة المسلمين القديمة فاتسعت، تجدَّدت وحاصرتها بيوت زمن الإسمنت. وعلى تلة صخرية مقفرة في الأعالي، أقاموا مقبرة جديدة، مثل الأولى شيدوا قبورها في العراء، فوضويًا وبلا حدود.
الهجران المقيم في مقبرة المسيحيين، سبق بسنين كثيرة هجرانًا مثله في بيوتهم، فلم تعد تسكنها حتى ذكريات أصحابها، ولا يروي أحدٌ سِيَرَهم هنا، ولا هناك في المهاجر البعيدة.
معلمةُ الكنيسة الساحقة الجمال، وقع في غرامها المستحيل الشبانُ المسلمون الذين تعلموا خارج القرية وعادوا إليها.

أحدُهم دفعه تيهُهُ الغراميَّ بها إلى محاولة انتحار. وفي حوادث سنة 1958 قُتلتْ المعلمة خطأً، أو قضاءً وقدرًا، بطَلقة بندقية جندي. فشاعت حكايات تعيد مقتلها إلى أن الجندي مصابٌ بذلك الغرام المستحيل. ودُفنت معلمة الكنيسة في مقبرة المسيحيين. وبعد سنوات من هجرة أخيها الوحيد، أضيف بيتُ أهلهما إلى الخرائب. ولولا عودة يوسف، لكانت جنازتُها الجنازة المسيحية الأخيرة، قبل سنين كثيرة من انتشار بيوت الإسمنت المقابريّة، وقلاع العمائر الحجرية الشبيهة بتنانين أو أفيال على التلال الجرداء.

يوسف - شقيق سعاد وضحكتها وسنّها المكسورة - عاد من تيهِهِ في أميركا كهلًا، فباع بيت أهله الخَرِب وبساتينهم المهجورة، ثم اختفى سنواتٍ عشر في بيروت، ومات وحيدًا في مأوىً للعجزة. 
وبعده لن يدفنَ أحدٌ في مقبرة المسيحيين.

*****

رحميَّةٌ كانت بيوتهم، كشعلة النار الأولى، كأحلام اليقظة السعيدة الهاربة، في حفريات غاستون باشلار للمخيلة البشرية. وكانت تلك البيوت في صمت طفولتي المنقطعة تَبْتَرِدُ بنسيمٍ ونور وظلال، وتغتسل بوحشة طنين النحل في ظهيرات الصيف. ومنها انتزع نداءُ العمل في المدينة وبلاد النفط الصحراوية شبانًا ورجالًا هبّت عليهم كلماتٌ وصور. 
وها أنا بكلمات وصور أقتفي أثرَ حياتهم القديمة وطفولتي الخرساء المنقطعة.
وتركوا الزرع والرعي والفطرة والأميّة وحفظ القرآن. والمشي خلف بغالٍ وحمير وأبقار وقطعان ماعز في الجرد، تركوه لمهربين محترفين ورعاة لا يكلِّمون سوى الماعز والصخور، ورحلوا. ومن عاد منهم إلى دياره وأهله، لم يجد لا كلماتٍ ولا صور لما كسبه وتغيّر فيه هناك.
هل تغيَّر فيهم شيء حقًا؟
بلى، لقد مزجوا قوة شكيمتهم القديمة بضغينتهم المكتسبة على أنفسهم وعلى حجارة البيوت العتيقة وتراب سقوفها. وبهيامهم الأهوج بالإسمنت، رفعوا جدرانَهُ وسقوفه مقابر لإرث آبائهم وأجدادهم، فلم تعد مقابر موتاهم مخيفةً ولا مرعبة. وشعلات السّرج والقناديل والفوانيس اختفت من لياليهم في البيوت. وكذلك على دروب غير بعيدة من البيوت، عندما كانوا في الليل يروون بساتينهم القريبة بمياه معتمةٍ يجرونها من نبع الجوز العالي بأقنية أطول من نداءات نواطير تشق العتمة أصداؤها الأعتم من الظلام.

وتكاثروا.
واستمروا يمدِّدون موتاهم على ترابٍ قليل في أقبية صغيرة كانت من حجر، فصارت من إسمنت أجرد كبيوتهم وطبقاتها المقابرية. على ترابٍ قليل يسجّون الموتى، يعرّونهم من أكفانٍ بيضاء كانوا يقايضونها ببيض الدجاج. وفي أماكن خفيّة في البيوت يخبئون الأكفان، منتظرين موتهم المنسي. بحجارٍ كانوا يسدّون الأقبية الحجرية على موتاهم. وفي زمن الإسمنت صاروا بأقفالٍ ومفاتيح يقفلون عليهم أبواب الحديد الصغيرة. ونصبوا على الأقبية الإسمنتية شواهد رخامية بيضاء اختطُّوا عليها بأسودٍ فاحم أسماء موتاهم، وعبارة أنهم لله وإنهم إليه راجعون. وفي ليلة رجعة الميت الأولى، كانت الأفاعي والعقارب، وظلت تقرض لحمَه، فيما الملائكة والشياطين تحاسبُه حسابَ القبر، فتشهد عليه أصابع يديه.

من يقول إن طبيعة أرضهم الصخرية تفسّر تسجيتهم موتاهم على ترابٍ قليل يندر ويعزُّ في أرضهم، لا تصمدُ حجتُه هذه. فلدفنهم تحت التراب كان ولا يزال يسعهم الاستغناء عن قطعة أرض كالتي كانوا يدفنون فيها الحبوب، وبارت كلها سنين كثيرة، قبل بنائهم عليها عمائر حجرية جديدة كالقلاع.

******

في نور الأصيل الشفيف الناعس، أُبصرُ فجأةً نيرانًا تلتهم بغلًا نافقًا على حافة الطريق الإسفلتية المعلقة على الشيّار الصخري، صاعدةً من منبسط بيادر الزمن القديم، ومنحدرةً إلى المقبرة. يشتعلُ البغل، كأنما دُلِقَ عليه سائل نفطي ملتهب. وعلى حجر، غير بعيد من السنة اللهب، يجلسُ راعٍ صبيٌّ محدقًا بلا اكتراث في بضعة عنزات تقضم نباتات شوكية صغيرة في الوعر الأجرد القريب.

أتَخيّلُ كَورسًا ينشد: أطلالٌ وثنية وركام، بغلٌ نافقٌ يشتعلُ في الجرد، صبيٌّ على حجر وسط الركام، يا للأطلال الوثنية.
لم يبقَ من البغال ورجال البغال سوى قلة قليلة، سُقَماء هزيلين، كبقايا البساتين، كَرَوث البغال على باطون الأزِّقة تندلع رائحتُه بين البيوت المقابريّة المتراصّة.
أين رجال البغال، أولئك الأشداءُ بقاماتهم الجّافة مثل حبال نُقِعَتْ في الماء وقدَّدتها الشمس والرياح والثلوج في الجرود؟ كانت كوفياتهم الرمادية تعصب رؤوسهم الصغيرة، فتبرز وجوههم صلبةً متعظِّمة متيبِّسة الجلد، كأنها اقتُدَّت من صخور المقالع. كانوا في أصيل الغروب يمتطون بغالهم، وفي عتمات الجرود يتقافزون خلفها كالجنادب. ينقلون للرعاة وقطعانهم الماءَ في قِرَبٍ كبيرة وأوعية معدنية صدئة بلون القِرَب. وفي غلس الفجر يعودون خلف البغال تحمل في الأوعية الصدئة حليب الماعز.

بعد الظهر، في نهاراتٍ أخرى، يعودون بأحمال قمح على ظهور البغال، قادمين من رحلاتهم الطويلة ليومين أو ثلاثة إلى حوران، أو من الوعر بأحمال حطب. وقد يصادِرُ منهم الأحمالَ هذه، مع البغال، رجالُ درك مخافر الحدود المتربصين بهم أحيانًا على الدروب الآتية من الوعر والمنحدرة من الجرد. أما أحمال الثلج الذي يحتطبونَه من أعالي الجرد بفؤوسهم اللامعة، ويعبئونه في أكياس جنفيص كبيرة يحزمونها على ظهور بغالهم، فلا يصادِرُها منهم أحد.
رجالُ بغال الحليب والقمح والحطب، هل ناموا وتحت نجوم بعيدة، على ترابٍ مهّدَتْهُ قطعانُ الماعز في مراحاتها بين صخور الجرد؟ 

وفي برد الفجر هل شربوا حليبًا يرغي دافئًا في طاسات نصف الرطل النحاسية؟ 
وفي ذهابهم وإيابهم، هل مروا قرب المقبرة خائفين، أم أخافَ عبورُهم في العتمة الموتىَ الجدُدَ في قبورهم، وتركوا الرعب للأولاد المرتاعين في ليل البيوت القريبة من المقبرة، فيما توقظُ الملائكةُ الميتَ الأخيرَ وتحاسبُه في الظلام؟

هل شرب رجال البغال القهوة بقشور البيض مع موتى اقتادتهم الجنيّات إلى مغارة مشعشعة، فتركوا بغالهم واقفةً مسربلة في درب أبصروا الجنيات تسحب عليه أفاعي شعرِهنّ الطويلة، بينما ينبعثُ من عريهن نورٌ قمري؟

وخمدتْ النارُ المشتعلة في بغل الجرد على طرف طريق الشيّار الإسفلتية. وعلى مثال أعراس التحرير في ضاحية بيروت الجنوبية وفي الجنوب، تخيّلْتُ أنهم احتفلوا بأعراس عداواتهم وسطوِهِم الاستعراضيّ المسلح على المشاعات والأرض البائرة، ورفعوا فيها مداميك بيوتِهم وجدرانها وطبقاتها المقابريّة، على هياكل أجدادهم العظميّة المفكّكة.