بيوتُ النّقمة وعرقُ الحياة المقيت

محمد أبي سمرا
الأحد   2020/03/01
لوحة بريشة عصام طنطاوي

إلى وديع سعادة

في سكينة ظهيرة صيفية، تصعد بي السيارة على طريق جردية متعرّجةٍ مقفرة، يخدِّر صمتُ الوعر إسفلتَها الساخن. أحدسُ أن الثلج ترك في هواءِ الصيف نضارةً امتصها بياضُ الصخور الرمادي الجاف، والاخضرارُ الداكن في شجراتِ السنديان الصغيرة، تلك التي يقضم أوراقها الخفيضة قطيعُ ماعز يسرحُ متقافزاً بين الشجرات والصخور.

فجأة يختفي هذا المشهد. وتملأ ناظريّ زرقة سماوية، مثل بحر مقلوب متجمِّدٍ في الفضاء، وتحته وادٍ لا يبلغُ النظرُ هوّتَها السحيقة. في الأعالي البعيدة تظهر قمم حرمون برهبتها المهيبة. تضيقُ الطريقُ، تتلوى، تهبط وتصعد، ويبديها سواد إسفلتها الطازج كأنها من أمس شُقّتْ وفُرِشت بالإسفلت على هذا الشيَّار الصخري المنحدر بحدّةٍ نحو الهوة.

على الطريق، خلف صخرةٍ متشبثةٍ بالجبل، أقفُ محدقاً في صورة فوتوغرافية ملونة أمسكها بيدي. أرى في الصورة وعلى الجبل أمامي بيوتاً اسمنتيةً جرداء متراصَّة في ازدحامها الفوضوي، وتتشبثُ تشبثا عنيفاً بالجبل.

لا أدري ما الذي يريني المسافات والأحجام والأشكال مختلَّة في هذه الوادي. كل شيء يبدو نائياً وقريباً، تكتنفه المهابة والضآلة، الرهبةُ والصَغَار. حتى وقفتي على حافة الطريق، حجم جسمي وحركتي، تنبو عن مألوف الحسِّ والحواس. ويتراءى لي أن يدي فقدتْ توازنها، كأنما لو مددتُها قليلاً لاجتازت الهوّةَ بين الجبلين المتقابلين، واصطدمتْ بكتل بيوت الإسمنت الجرداء. كتلٌ أتذكرُ وأعلمُ أنها بيوت، لكنني إذ يزوغ بصري عليها أراها جحورَ نملٍ أو قفائر نحلٍ أو شرانقَ عناكب، قذفتها قوة بركانية جمّدتها على السفح، فلم تُبقِ من أخضر النباتِ سوى لطخٍ ضئيلةٍ متباعدة، تبدو لبصري الزائغ ووعيي الشارد نباتاتٍ بلاستيكية يكسوها الغبار.

****
تقول المرأة الثمانينية إنها هنا، خلفَ باب بيتٍ من بيوت هذه القرية، ولّدتني الدايةُ منها، في الليلة الأولى من سنة 1953. وأنا أمضيتُ هنا سنوات طفولتي الأولى، القصيّة المنقطعة من الزمن. وهي كانت لي بداية الخلق والعالم والزمن. وها أنا الآن أقفُ على حافة طريق الشيّار الإسفلتية، قبالة هذه القرية، فلا تقوى كلماتٌ على ردم هوة تلك القطيعة وخرسها المزمن.
أفكر في الكلمات، بطيشها، بقلّتها وضآلتها، بعجزها ولا جدواها حيال قوة الزمن الخرساء، وقوة أفعاله في البشر والطبيعة والأشياء، وما فعله البشر هؤلاء الذين دمروا في عشرين سنة أو ثلاثين، قروناً من حياة آبائهم وأجدادهم، البدائية البطيئة.

حياة قد تكون ابتدأت باحتطابهم سنديان الجرد والوعر، بمقايضتهم الحطب وفحم المشاحر بفؤوس ومعاول وسكاكين وسُرجٍ تشتعلُ بزيت زيتون معاصرهم. والسُّرج كانت تنير عتمات ليالي بيوتهم الحجرية المسقوفة بترابٍ وخشبٍ سوّدته أدخنة الحطب المحترق بمداخن في زوايا البيوت.

وفي مشهد آخر استغرق السنين الخمسين الأخيرة من حياتهم، أرى البساتين، بساتينهم التي أنشأوا لها جلولاً معلقة على المنحدرات نحو الوادي. وأرى ما فعله إهمالُهم البساتين للهجران واليباس، وتشييدُهم هذه البيوت الإسمنتية والعمائر الحجرية الشوهاء الشوهاء، ثأراً من تواضع القديم الذي صار وضاعةً في ناموس حياتهم الجديدة. وها هو ثأرهم يلطّخ بالجدري التلال والسفوح والوادي.

ربما تلك الأماكن النائية المنعزلة في القفر، لم تطأها أقدامهم، فظلت وحدها على حالها، كالنور، كالهواء، كالصخور، وكذاكرةِ طفولتي القصيّة المنقطعة.
لكن أين تلك الإلفة الدهرية الموحشة، إلفةُ الكفاف التقشّفِ والقسوة في عزلةِ هذه القرية الجردية؟ 
أين تلك البيوت الحجرية المسقوفة بالتراب والأخشاب، المتدرجةِ على السفح؟ 
أين قبّة جرس الكنيسة الصغيرة ومئذنة الجامع المرتفعتين بتواضع قديم على الشيّار الصخري؟ 
أين تلك الدروب العتيقة التي اختطها أقدام البشر وقوائم الدواب والقطعان في الوعر، فجعلت عزلة الوعر مؤنسةً من دون أن تنتزع منه مهابة الطبيعة في وحشتها الخالدة؟

وضحكة سعاد المسيحية الصباحية، التماعة سنِّها الأمامية الناتئة المكسورة، كيف اجتُثّت حتى أصداؤها عن مصطبة بيت أهلها، ومن صدري ومخيلتي؟ واجتُثّت المصطبة والبيت وسائر البيوت الحجرية القديمة، وجفّت الضحكة والتماعة السِّنِ المكسورة، كجفاف مياه الينابيع يكشفُ عن حصىً وحجارٍ غبراء في مجاريها المجدبة؟ 
وكيف كاقتلاع شجرات التوت الثلاث المعمرة أمام البيت الحجري القديم، اقتُلِعتْ تلك الخشونة الجردية في جلد الراعية نديمة وصوتها، فاختفتْ، واختفتْ معها رائحة الروث والزِّبل والحليب التي كانت تفور من  جسمها على سطح بيت أهلها الترابي؟

***
لا، ليس حنيناً ولا نكوصاً إلى ذلك القِدم، إلى طفولةٍ بعيدةٍ منقطعة، إلى إرث الأجداد وتراثهم، بل نفورٌ أليم، أخرسَ حائرٍ، من الحنين والإرث والتراث والأجداد. ونفورٌ أشدُّ من ذاك إيلاماً، وقد يتحول ضغينةً على أبناء أولئك الأجداد وأحفادهم، على قوة شكيمتهم، بعدما صاروا أهل ضعفٍ وهوان جديدين، ومزجوا فطرة أجدادهم وتقشفهم وقسوتهم في الجرود، بأعمال جديدة متواضعة جعلت "عرق الحياة المقيت" (وديع سعادة) ينزُّ من أبدانهم في بيروت ومدن النفط الصحراوية.

في ذلك الزمن القديم، كان أولئك الأجداد يبنون بقوةِ شكيمتهم البيوتَ بحجار المقالع، ويسقفونها بالتراب والأخشاب والأغصان اليابسة يحتطبونها من شجر الوعر وصفصاف مجرى النهر وحوره. وصار فحّامو المشاحر، بائعي حطبٍ وفحم وثلج، مكاريي تجارة تهريب ومقايضة على البغال والحمير، ورعاة قطعان ماعز في الجرود والمزارع التي استنبتوها حبوباً وزيتوناً وعنباً، كما استنبتوا السنابل في أثلامٍ صغيرة يسمونها معالفَ على السفح وتحت قمم الجرد. 
وفي أزمنتهم الزراعية الأخيرة، قبل "موت الدم الزراعي" (محمد العبدالله) في جوارحهم، استنبتوا الوادي من نبع الجوز العالي إلى أسفلها، لوبياء وبطاطا وباذنجان ويقطين وبندورة وأشجار خوخ وتفاح وكرز، في جلول انشأوها متدرجةٍ على السفوح حتى ضفتي النهر.
لا، لم تكن قوتهم وشكيمتهم بلا عرقٍ في زمن البطء القديم، بل كان عرقُها غزيرًا. لكني لا أدري لماذا يتهيأ لي أنه لم يكن عرقاً مقيتاً، وصار في أزمنتهم الجديدة أشدُّ مقتاً وقتامةً من ركام حياتهم الفوضوية الشوهاء أينما حلّوا.

مقتٌ وقتامة عادوا بهما إلى قريتهم الجردية مع ثرواتٍ صغيرة وكبيرة، فرفعوا بها بيوت الإسمنت وعمائر الحجر الجرداء، منتشين بثأرهم، بضغائنهم المبيتة في تسابقهم على تشييد هذي البيوت طبقة فوق طبقة فوق طبقة، طمعاً بشرفةٍ أو نافذةٍ عالية لا يصدمُ البصرَ في إطلالته منها جدارٌ أغبرُ أصم، هو المرآة الوحيدة لحياتهم.

كلٌ منهم غافل أخاه، أخته، ابن عمه، وجاره، لرفع هذه الجدران الكالحة على البيوت الحجرية القديمة المتدرجة على السفح. ومزجوا الإسمنت والحجارة بقوة تنابذهم وتحاسدهم وكيدهم، فيما كلّ منهم يقضم سنتمراتٍ من طريق أمام بيته القديم الموروث، وسنتمرات أخرى من ملكِ جاره أو قريبه، وأمتارٍ من المشاعات القريبة.

أما المشاعات البعيدة في الوعر، فاختصموا وتشاجروا في سطوهم عليها، وفيما هم يشيدون عليها بيوت الثأر والنقنة. ولا شيء يعلي مكانتهم مثل هذي البيوت وكثرة طبقاتها وارتفاع جدرانها المتقاربة، فيما هي تملأ بالضيق والنقمة والمهانة صدور الجيران والأقارب.

وعلتْ بيوت الإسمنت وعمائر الحجر طبقات لسكن الأبناء وزوجاتهم، لتكثير ذرياتهم. لكن هذا الجار المهان، أو ذاك القريب المختنق غيظاً وكمداً، يسارعان إلى الانتقام الإسمنتي، أو الحجري الأرفع منه شأناً، فيرفع هذا جدران بيته وطبقاته أعلى من جدران بيت ذاك وطبقاته.
وتقاربت بيوت النقمة جدراناً ومداخل وأبواباً ونوافذ وشرفات صغيرة تطلُّ على جدران، على دروبٍ كانت دروباً، فصارت أزقةً وزواريب قاتمةٍ يتعفنُّ فيها الهواء، والنفايات تهصرها دواليب سيارات الدفع الرباعي.

مقيتةٌ الحياةُ في دواخل هذه البيوت، خلف نوافذها، على شرفاتها، وفي الأزقة. وساكنوها يشبهون كثيراً حياتهم.