حجاب الثورة وسُفورها.. مسؤولية النّخبة

عدنان نعوف
السبت   2020/02/22
وعد الخطيب في حفلة الاوسكار (غيتي)
لو أننا أجرَينا استبياناً للآراء في أوساط جمهور الثورة السوريّة، قُبيلَ ظهور السوريّتين أماني بلور ووعد الخطيب، في حفلة توزيع جوائز الأوسكار، فلربما خَرَجنا بنتيجة تُفضِي إلى اقتراح إقصاء إحداهما وتفضيل الأخرى، أو فَرضِ مَظهَرٍ (ذي طابع ديني أو لاديني) مُوحَّد للاثنتين.

نعَمْ؛ نحن نتحدث هنا عن جمهورٍ ثارَ ضدّ الفكر والمَظهر البعثي الموحّد المَمسوخ في بدلة عسكرية، ليَجِدَ نفسه بعد سنوات وهو يمارس سلوكيات مشابهة. لكن مَن أوصل الأمور إلى هذه المرحلة؟

قد تبدو التعليقات التي رافقت انتشار صوَر أماني ووعد، والمرتبطة بالحِجاب والسّفور، شكليّة. غير أنها في الواقع ليست كذلك، فهي تعكس شرخاً سورياً كان في حاجة إلى مكاشفة جَديّة، بدلاً من التأجيل بذرائع الحرص على "صورة الثورة" و"تفويت الفرصة على النظام" واعتبار الحُكم الديموقراطي المرتجى في "سوريا المستقبل" حَلاً سحرياً لجميع الملفات!

هذه الحُجج والأساطير وما نشهده من تداعياتها، لا يُسألُ عنها مَن انتفضوا ضدّ الحكم الأسدي، وإنما تُدِين نُخَبَاً ومؤسسات وجِهاتٍ كان يُنتظر منها أن تُغيّرَ وتَقود حين رَكّز المنتفضون نظرهم عليها ليعرفوا "ما التالي؟". لا أن تُعامِلَ الظواهر السلبية بخِفّة تتلطى خلف فكرة "التماهي مع الجمهور وترك القيادة له"، وتَرمي المنتقدين بعبارات ساخرة متعالية.

لغة التسامي والترفُّع عن النقاش والتفكيك، هي ذاتها، بقيَتْ واستمرّت إلى أن رأيناها تُخرِسْ هذه المرة "أبناء الثورة" أنفسهم (ممّن تناولوا مَظهَري وعد وأماني)، وذلك بأسلوب أبوي يستخدم التوبيخ والتأديب المستعجِل، كتعويض عن غياب الحضور والتأثير الفعال.
الأسوأ أن هذا السلوك يُمثّل فقرة وحسبْ في مسلسل "إخماد، تأجيج"، الذي أنتجه وأخرجه "كهنة الثورة" وحكماؤها ووُجهاؤها. فهؤلاء (ومِنهم من يتابعه الآلاف للاهتداء به) لطالما لعبوا في المقابل -عن غباء أو استثمار- على وتر العصبية والإقصاء، كما كان يحصل مثلاً عند استهزائهم بـ"العلمانية" عبر ربطها ذهنياً بنظام الأسد، بدلاً من ربطها بالغرب كنموذج (حيث يعيش قسم كبير من مؤيدي الثورة، وينعمون بالحريات الدينية)! في المحصلة، تحولت مفاهيم مثل "العلمنة" و"الأقلوية" وسواها، إلى معطيات انفعالية تثير غرائز الاقتصاص الجماعي و"الثأر التاريخي" المُعَاد تدويره.

لا شكّ أن دَور نظام الأسد كان حاسماً ومُمنهجاً لجهة جَرّ الانتفاضة الشعبية نحو مستنقع الفعل ورد الفعل الطائفي، عبر المجازر الوحشية التي استهدفت حواضن كاملة للأكثرية السنية، فيما كانت تنكّل بالمعارضين من أبناء بقية الطوائف بأسلوب استفرادي صامت لا يشوّش على دعاية "حماية الأقليات". لكنّ من تصدروا المعارضة السورية، استكملوا المشهد حين جعلوا من "ثورة شعب" (لها فُرَصها في بناء مشروع جديد)، مُجرد فقرة في "حرب النظام على السُّنة بدءاً من مجازر حماة العام 1982".

على هذا الأساس راحت تترسّخ في المخيّلة الثورية صورة حِراك "ينبغي أن يُعوّض الطائفة السُّنية عن كونها ضحيّة مؤامرات أقلويّة متتالية (بينها استلام البعث للحكم)". فارتسمت معادلة حالِمة في وجدان كثيرين ترى أن "انتصار الثورة السوريّة يجب أن يَقود بالضرورة للتخلص من الاستبداد، وفق صيغة تُصحِّح الخطأ الناجم عن حكم الأقلية، بتسليم السلطة للأكثرية ضمن قواعد ديموقراطية".

د.أماني بلور

وسط هذا المناخ المُمتد عبر سنوات الثورة، والمدعوم بأحداث "نصف حرب أهلية سوريّة" شهدت استقطابات حادة، كان طبيعياً أن تتعرّض المخرجة وَعد الخطيب للانتقاد والهجوم أحياناً، عقب ظهورها "غير المُحتشم" المناقض لما بَدَتْ عليه في ملصق فيلمها! 

وظَهَرتْ وعد في فيلمها "إلى سما" والذي جرى تصويره في مناطق سيطرة المعارضة في مدينة حلب بين العامين 2012 و2016 وهي ترتدي الحجاب في بعض مشاهِده. وبغضّ النظر عن الخلفيات والدوافع الشخصية أو الإثنية الحقيقية لذلك، فإن ما يمكن اعتباره سلوكاً ظرفيّاً "اضطرارياً" في حالتها، لا ينطبق بالضرورة على الآخرين من أصحاب المنابت الاجتماعية المختلفة الذين التحقوا بصفوف الثورة واتخذوا مواقع وأدواراً ومواقف تراوحت بين الاندفاعة الوطنية الاحتجاجية الخالصة، أو التضامن العاطفي مع "المظلومية السنية"، أو الاستثمار وركوب الموجة. 

وكان تراجع ثم نهاية التظاهرات الشعبية، ضمن مناطق الأقليات السوريّة (كمدينتَي السلمية ومصياف)، وإحكام النظام قبضته الأمنية عليها، حاسماً في جعل ما تبقى من أقلوييّن ثوريين يَقَعُون أسرى ذميّتهم سواء كمتعاطِفين أو كمستفيدين، لنجِدَهُم في أحيان كثيرة يُخفُون تمايزهم أو حتى أفكارهم عن مشروع "الوطن المستقبلي"، فظلّوا طويلاً يلعبون دور "الديكور الثوري".

وبطريقة أعمّ وأشمل انسحبَ الأمر على الكيانات السياسية المعارضة، التي كانت تُؤَسَّس، بين ليلة وضحاها، بمجرد توافر "شِعار، وقاعة اجتماعات، وخِطَاب"، لتَضمّ في تركيبتها شخصيات ذات خلفيات إثنية وعرقية متباينة (مسيحية أو كردية وسواها) توحي بالتعددية! فضلاً عن أجسام سياسية نشأت بشكلٍ منفصل، واتخذت لوناً واحداً باسمِ من تنتمي لهم بالمنبت، كما هو الحال مع تيار "غد سوريا" الذي أراد "بناء الهوية الوطنية السورية" من خلال تشكيل كيان ناطق باسم "العلويّين الشرفاء"! فكانَ أن ظَهَرَ التيار واختفى من دون أثرٍ يذكر، بما أن مَنطِقَهُ كان ذمياً، وهَدَفَهُ "اعتذارياً"، يَجعل من الهوية الدينية أو العرقية أداة تجريم (أو تكسُّب) لجميع المنتمين إليها بالصدفة التاريخية.

لكنَّ هذه النماذج لم تكُنْ لِتُولد أساساً لولا أنّ التمويلات الآتية من "الدول الصديقة" دَعَمَت دوّامة "المظلوميّة" هذه، وكأننا أمام مُسوَّدة رديئة مُنقّحة عن النموذجين العراقي واللبناني، لا تنتج سوى عقليّة المحاصصات والانشغال بالمكاسب الآنية، بدلاً من قيادة الحِراك الشعبي والتأثير فيه.

وبالتوازي، مع بروز هذه التشكيلات الكاريكاتورية التي يُفتَرض أنها تمثل سوريا، هبطَ علينا فِكرٌ ساقتهُ منظمات لا تدرك الخصوصية المجتمعية السورية، وتختزل الحلول في "تمكين الضحايا" و"الاحتفاء بالتنوع"، مَازِجةً "الخاص" بـ"العام"، و"القانوني" بـ"السياسي"، و"الأخلاقوي" بـ"العاطفي".

في النتيجة، سادَ الابتذال والمشاعر التضامنية اللزجة والعمياء (إلى حَدّ مديح التشدّد وتنظيماته أحياناً)، وفي أحسن الأحوال عُولِجت الأمور بمواقف سطحية كما حصلَ عندما أسكتَ "حكماء الثورة" منتقدي لباس وعد الخطيب وأماني بلور، مستخدمين عبارة غائمة مثل "الحريّة الشخصيّة" أو مَنطق التنوع الفسيفسائي الاستعراضي والفولكلوري، ما يذكّرنا بإخراس النظام أي محاولات للتعمق في تفاصيل سوريا، برفعِهِ شِعَار "الوحدة الوطنية"!

سَيَبدو بَحثُ أي أفكار ووَصفات لاماديّة حالياً، ضرباً من الترف، فيما يُقتل السوريون قصفاً أو برداً أو تعذيباً. لكنْ مِن حقّ أجيال قادمة أن تحلُم بما هو أفضل، ولا سبيل لذلك إلا بجَعلِ "النجاة" فرصةً وخطوةً لفهم هذا البلد المُسمى سوريا.
وبالنسبة لأبناء الأقليات العرقية والإثنية و"الفكرية" الذين التحقوا بالثورة السورية وأكملوا طريقها، فعليهم أن يدركوا أنّ أدوار الكثير منهم (والتي حملت ظاهرياً معنى "التعاطف" وضمنياً "الاقتناع بالحصة المحددة") لم تخدم سورياهم، ولا "قضية إخوتهم في الوطن". بل إنهم فعليّاً تركوا جمهور الثورة من السُنّة، لقمةً سهلة لمشاريع إقليمية طائفية، لم ترَ فيهم سوى وقود لحروبها الداخلية والخارجية. وطبعاً كُلّهُ باسم "التضامن مع الضحية".