قصيدة سيمون جوهانا: كبسولة السرعة والعنف

روجيه عوطة
الثلاثاء   2020/12/22
عنف بارد يظل في دواخل حامليه، ولا ينصرف منها إلا في بعض اللحظات والمسالك
ثمة شيء تتسم به قصائد سيمون جوهانا التي نشرها في مجموعته تحت عنوان يمكن تعريبه بـ"ها نحن الآن كائناتنا العزيزة" (éd.Allia). سِمتها هي سرعتها، التي يصح الإضافة بأنها ميكانيكية. ففي القصيدة الواحدة، تحدث وقائع كثيرة متداخلة ومتباعدة في الوقت ذاته: قطف ورود، شراء أدوية، سقوط زجاجة كحول، مطر، قطع يَد، خلاء الشوارع.... على هذا النحو، يتنقل الشاعر بين هذه الوقائع بسرعة، وبوتيرة بعينها، تحوّل تنقله ذاك مما يشبه السبب إلى ما يشبه الأثر، الذي سرعان ما يصير، ومن جهته، علة أيضاً. 

فتجتمع كل هذه الأسباب والآثار مع بعضها البعض، في قصيدة أقرب إلى ماكينتها التي تحمل سائقها، اي الشاعر اياه، إلى حديث طويل ومتقطع مع نفسه او مع غيره، وهو غالباً ما ينتهي إلى خلاصة لا يمكن توقعها، لكنها تستوي على هدوء أو بطء، يصح وصفه بأنه عنيف.

فعلياً، قصائد جوهانا تنطوي على عنف، لكنه ليس عنفاً حاراً كبيراً يضرب الأحوال، يشق الأجساد، إنما هو عنف بارد للغاية، يظل في دواخل حامليه، ولا ينصرف منها الا في بعض اللحظات وفي بعض المسالك. ففي قصيدة من القصائد، يبرز ذلك العنف في مشهد المؤخرات التي تتخابط تحت حبال المطر، أو أنه يبرز عند امتلاء حجرة ما بالماء، أو في لحظة فتح الجمجمات بموسيقى خفيفة. لكن هذا العنف، وقبل بروزه، يكون بمثابة محرك في كاتمه، أو شاعره الذي، على قوله، يصير رأسه ملتهباً، قبل أن يفجر. في الواقع، انفجاره، وفي الكثير من القصائد، يكون بمثابة منتهاها. هذا ما يمكن ملاحظته في قصيدة عن الفراق بين الشاعر وحبيبته، إذ إنها هجرته وتركته مشلولاً وثابتاً في مكانه، مع رأس مضطرم، ومع أفكار كثيرة عنها، وكل حالته هذه تنتهي إلى حركة بعينها، وهي نظره إلى مايوهها الذي تركته في غرفته مع بقعة من الدم عليه. فكل عنف الفراق ينتهي الى هذه الحركة، التي لا تخففه، ولا تقفله، إنما تمثله، وتجعله مختصراً فيها.

فعلياً، ما يساعد قصائد جوهانا على تجسيد كل ذلك العنف، على سرعتها الميكانيكية، هو أنها وقائعية. والكلام عن وقائعيتها، يجعلها قصائد سردية. بالتأكيد، هذا يتعلق بكون الشاعر هنا روائياً، قبل مجموعته هذه. بالتالي، هو، وفي مضيّه إلى الشعر، لم يتخلّص من روائيته. على العكس، روائيته تحضر من قصيدة إلى ثانية بالانطلاق من وقائعيتها، التي، ولأنها على شطور وبيوت، تستقر على كثافتها. بدلاً من أن تأخذ وقائع القصيدة مكانها المعتاد في السرد، بدلاً من أن يكون مكانها هذا رحباً، بحيث أنه يتيح لها الرسو على تفاصيلها، تحل في حيز صغير، وبهذا، تبدو مرصوصة، ومضغوطة.

في هذا السياق، يمكن القول أن كل قصيدة من قصائد جوهانا هي كبسولة سردية، حافظة سردية، بحيث تحوي جرعة من السرد الوقائعي، التي، ولو أنها ليست مصنوعة شعرية، لما كانت حضرت سوى على اطنابها. على أنه، وفي هذه الجهة بالتحديد، يمكن القول أن شعر جوهانا ليس مجرد شعر بالطبع. لكنه ليس بشعر صافِ. فمن اليسير التنبه إلى أنه ليس مهموماً بنوعه الأدبي، بقدر ما هو مهموم بما يتضمنه، أو بما يصوره. على هذا المنوال، يصعب الاعتقاد انه يقوم بانشغال بالقصيدة، إنما بانشغال بالتسجيل، اي بتسجيل الخواطر السردية إذا صح التعبير، أو بتسجيل وقائع لا يجد الشاعر ضرورةً لتوسيعها، بل وضعها كما هي، بسرعتها، وميكانيكيتها، وعنفها، "لقد خلطت كل سواد هذه السماوات/التي رأتنا ننحني على بعضنا البعض".