هل بدأت أمّ المعارك؟

أسعد قطّان
الأحد   2020/12/20
مرفأ بيروت
حين ألقى السيّد إيلي الفرزلي مرافعته البهلوانيّة دفاعاً عن حقّ المجلس النيابيّ في محاكمة الوزراء والرؤساء، كان كمن يدافع عن عالم في طريقه إلى الزوال. فهذا الذي ما زال بعضهم يصرّ على تسميته مجلساً نيابيّاً أو ندوةً برلمانيّةً لا يتعدّى اليوم كونه هيكلاً عظميّاً. لقد نسي صاحب كتاب «أجمل التاريخ كان غدا»، أو تناسى، أنّ هذا المجلس كان قبل ثورة ١٧ تشرين أشبه بشرذمة من خيالات الصحراء. ولكنّه تحوّل إلى هيكل عظميّ حين سحب منه المنتفضون شرعيّته الشعبيّة وسحب منه انفجار المرفأ في الرابع من آب شرعيّته الأخلاقيّة. الذين استقالوا آنذاك من الهيكل العظميّ فهموا هذا جيّداً. أمّا الذين قرّروا البقاء، فتتحكّم فيهم حسابات سياسيّة تافهة. وهي، أيّاً تكن أهمّيّتها، لا ترقى إلى مستوى التعامل مع جريمة دمّرت ثلث بيروت، وقتلت أهلها، وخرّبت مرفأها.

وحدها جرأة القاضي العدليّ فادي صوّان في الادّعاء على رئيس حكومة ووزراء، وعلى غيرهم من صغار الموظّفين، تجعلنا نفهم لماذا قرّرت الزمرة الحاكمة، ومعها بعض زرارير المُؤَسّسة الدينيّة، الانقضاض على حامل الميزان والاستعانة عليه بكلّ أسلحتها التقليديّة: اتّهامات بأخطاء في الشكل، تأويلات متهافتة لنصّ الدستور، وطبعاً شحن للعصب الطائفيّ. من أوّل يوم بعد انفجار المرفأ كنّا نعرف أنّ شيئاً لم يتغيّر في العقول الصدئة لهذه الزمرة. من أوّل يوم بعد دمار بيروت كنّا ندرك أنّهم سيحاولون أن يمرّروا الأمور كما كانوا يمرّرونها طوال ثلاثين سنة، أن يمتصّوا غضب الناس، أن يهربوا من القصاص، أن يعاقبوا الشباب بالضرب والسحل والسجن. ولكنّهم لم يفقهوا أنّ العالم الذي يحلو لهم أن يعيشوا فيه ولّى إلى غير رجعة. ولم يفهموا أنّ عقارب الساعة لن ترجع إلى الوراء، وأنّ صوت الجيف التي ابتلعها بحر بيروت أقوى من فذلكاتهم ومن دهائهم. يا لغبائهم! كيف يجتمع المكر والغباء في عقول الساسة على هذا النحو؟ وكيف يتحوّل القاتل إلى سياسيّ والسياسيّ إلى مهرّج؟

اللافت في هذا كلّه هو أنّ القاضي العدليّ التزم الصمت، كما يليق بالقاضي، تاركاً لخفافيش السياسة أن تثرثر وترغي وتزبد. لم يجاوب. لم يدخل في لعبة السين والجيم. لم يشرح منهجيّته. لم يكشف أدلّته. جلّ ما قام به هو ولوجه إلى دائرة الصمت، ودائرة الصبر، في انتظار أن تنجلي الأمور. هل يتنحّى؟ هل يُستبدل؟ هل تتراجع محكمة التمييز الجزائيّة؟ ماذا سيكون موقف مجلس القضاء الأعلى؟ أسئلة على أسئلة تؤرق الناس وتحوّل ليالي الأعياد في أعيادهم إلى جهنّم حقيقيّة، تلك التي بشّرهم بها سيّد القصر المنشغل بصغائر المسترئسين من حوله.

كلّ شيء تحوّل اليوم إلى تفصيل. الحكومة تفصيل، لعبة شدّ الحبال الصبيانيّة بين الحريريّ والباسيل تفصيل، الذين يقفون في خلفيّة المشهد ويقهقهون هم أيضاً تحوّلوا إلى تفاصيل. وحده ما يجري اليوم بين القضاء والسلطة هو بيت القصيد. القضاة يعرفون أنّ هذه هي فرصتهم الأخيرة كي يستعيدوا ثقة الناس وثقة العالم وكي يصبح القضاء قضاءً من جديد. ويعرفون أنّ من يتربّص بالقضاء سيخوض معركته حتّى آخر كذبة، حتّى آخر تقويض لروحيّة النصوص القانونيّة... وحتّى آخر رصاصة. وهو يقوم بهذا لا لأنّ رأسه في «الدقّ» فحسب، بل لأنّه رغم كلّ تجبّره يخاف من القضاء، ويخاف من المحاسبة، ويخاف من الناس، وصار يخاف أكثر بعد ١٧ تشرين و٤ آب. ومن يخف، يكون قد خسر ثلثي المعركة. وهذا الخوف يبنى عليه.
قلناها ونقولها اليوم: لا حياة لهذا الوطن ما لم يستعد قضاته زمام المبادرة ويسترجعوا حرّيّتهم التي استلبتها المنظومة العاهرة. فهل تصبح جريمة المرفأ هي المنطلق الأخلاقيّ كي يحقّق القضاة انتفاضتهم ويكتبوا فصلاً آخر من فصول ثورة ١٧ تشرين التي لم تنتهِ بعد، وذلك بأمارة الذين يرتعشون خوفاً ويختبئون خلف تأويلاتهم المقزّزة للقوانين؟ حين أطلق ميشال حايك بكلماته الضبابيّة «توقّعاته» عن انفجار المرفأ، استخدم عبارة «أمّ المعارك». هل بدأت أمّ المعارك بين السلطة المارقة وقضاة لبنان الشرفاء؟