وليد صادق لـ"المدن": كيف نؤرخ لأزمنة الفن المعاصر؟(2/2)

حسن الساحلي
الإثنين   2020/11/23
أحاول التمرد قليلاً على موقعي والتحول إلى مؤرخ
ينتمي وليد صادق إلى الجيل الأول من فناني ما بعد الحرب، الذين عملوا ضمن ممارسات الفن المعاصر التي لم تكن مألوفة بعد في لبنان، كالفن الأدائي (الذي يضم المحاضرات)، التجهيز، الفيديو، والرقص المعاصر. عُرضت أعمال هذا الجيل ضمن فعاليات خصصت للتجريب مثل "مهرجان أيلول" الذي شارك صادق في تأسيسه وجذب عيون فاعلين ثقافيين من الخارج، و"أشكال الوان" التي تحولت مع الوقت إلى إحدى مؤسسات الفن المعاصر الأكثر تأثيراً في المنطقة. قدم صادق في مسيرته عدداً من المعارض الفردية والجماعية بين لبنان والخارج، عُرفت باختزاليتها من ناحية الشكل وقدرتها على تحويل المتفرج إلى جزء من السياقات التي تنتجها. لكن يبقى عمله الأساسي مرتكزاً على الكتابة التي رآها ممارسة فنية لا تقل أهمية عن الفنون الأخرى، وقدم منذ منتصف التسعينات حتى اليوم عشرات المنشورات والكتب النظرية (اختلفت احجامها وأشكالها وأساليبها)، ضمت نقداً للأفكار والمفاهيم التي قامت عليها إيديولوجيا السلم الأهلي التي هيمنت على مرحلة ما بعد الحرب، إن كان في الثقافة العامة أو في عالم الفن (مثل نظرية التروما، العدالة الانتقالية، مفهوم الفقدان، الحداد، إيديولوجيا الأمل والمستقبل، الحاضر المؤقت، مفهوم الضحية...). ساهمت هذه النقاشات خلال بعض المراحل في توجيه الخطاب ضمن أوساط الفن المعاصر، كما قدمت تأريخاً بديلاً للإنتاج الثقافي في لبنان.

أجرت "المدن" حواراً مع صادق (الجزء الأول من الحوار هنا)، يتناول المرحلة الحالية، بوجوهها المختلفة وأزماتها وتأثيراتها في عالم الفن. هنا الجزء الثاني من الحوار:

- هل تعتقد أن 17 تشرين شكلت خرقاً ما في لبنان؟ كيف رأيت التفاعل الفني مع الحدث؟  

من دون شك، تكوّن رأي عام على هامش 17 تشرين الأول. جميعنا نزلنا إلى الطرق، وكان بعض طلابنا السابقين معنا في الشارع. مارست الفتيات النظرية النسوية، وحصلت قصص جديدة، بعضها كان جميلاً. بشكل عام هي لحظة آناركية. حين أتذكر بعض الليالي اليوم، استغرب... لم أتخيل أن أعيش مثلها وأنا في الرابعة والخمسين.
طبعاً، المجتمعات لم تعد تركب على مقاس كارل ماركس، خصوصاً أن كان السلاح في وجهك، ليس فقط سلاح حزب الله، بل أيضاً سلاح الدرك والجيش والمكافحة. لا أحد منا مستعداً أن يخسر براءته والتحول إلى العنف.
هناك نص جميل كتبه ميشال فوكو عن منطق الحقوق ومنطق الرغبات. يقول: أحياناً يجب أن تصرّ على أن يكون عملك في المجتمع، أو صوتك، أقرب إلى منطق الرغبات، وأن تبتعد عن النقاش في الحقوق. إن كانت لديك مطالب، وهناك تركيبة حقوقية سائدة بوجهك، سيقولون لك "تعال لنرى كيف نجد لك مكاناً". إن قبلت، ستكون خاسراً، لأن المنظومة ستدافع عن نفسها بشكل أو بآخر.
أما الفن، فبرأيي يجب أن يعمل بمنطق مختلف، هو منطق الرغبات وليس الحقوق. الرغبات تكون دائماً زئبقية، والفن يُدخل نفسه في ما يعرف ولا يعرف. لكن ذلك الفن المركب كله، هو ليس فناً بل تلقيناً. طبعا يمكن أن يكون ضرورياً خلال فترة معينة، للوقوف إلى جانب المنظومة الحقوقية المقترحة وللمساهمة فيها، ولإيجاد مخارج لمواجهة المافيا الحاكمة، لكنه سيكون فناً تلقينياً في النهاية.
الفنان مكانه مختلف. لا أطلب أن يدير ظهره للمواجهة، بل أقصد أن الفن يعمل بطريقة مختلفة. زمنه متأخر عن الحدث. خلال الثورات، الإنتاج الفني يكون دائماً سطحياً، لكنه ضروري في آن. فالثورة لن تنتظرك لتأخذ وقتك وتفكر.
هناك شيء آخر مطلوب من الفنان، وهو يتطلب ان يبقى في البلد وأن يكون نَفَسُه طويلاً كي يتمكن من إيجاد الزمن الزئبقي والبطيء الذي يسمح له بإيجاد شكل لرغباته وليقوم بالبناء أبعد قليلا. أن يقبل أيضاً ان الهزيمة آنية وليست للأبد. مداخل الفن ومخارجه غامضة دائماً. كما من الصعب ان ينتسب الفنان الى حزب. أفهم عمل النشطاء، لكن هؤلاء ليس لديهم صبر الفنانين ويريدون المواجهة باستمرار... في النهاية كل نوع لديه وقته.

- ألا تلعب الغاليريهات دوراً في تشجيع الصنف الثاني؟

طبعاً. هؤلاء أي شيء يأتي بالنقود أهلاً به. في كل حال، أحياناً يمكن للممارسات الفنية أن تساعد في تضميد الجراح... لكن الفن عليه أن يبني شيئاً. هناك فن يعيد البناء وهناك فن يرفض إعادة البناء. يزيل الإعادة ويقول أنه يريد أن يبني. المواد التي عليك أن تبني بها، مختلفة كلياً عن تلك التي يريدون إعادة البناء بها. طبعاً هذا يتطلب وقتاً لكني أنحاز إليه، حتى لو كان هناك احتمال ان لا تصل إلى نتيجة.
حين يُدمر منزل يفترض مباشرة أن على اصحابه إعادة بنائه. لكن أحداً لا يريد بناء ما كان موجوداً ضمن هذه المنظومة. بكل حال السؤال يبقى: بأي مواد تريد أن تبني؟ موادك لن تكون كلها جديدة، كما زعم الحريري، والأيدي البيضاء التي أصبحت سوداء في النهاية... هناك فكرة تقول إنك غير قادر على بناء مجتمع مرّ بحروب إلا اذا كان جزء من المواد التي تبني بها، يتضمن المعرفة التي تراكمت مع الناس الذين شاركوا في الحرب. ليس بمعنى زعماء الحرب، بل الناس الذين عايشوا التجربة وحملوا معرفة ثقيلة عنها. خلال التسعينات كان مطلوباً منا إزاحة هذه المعرفة وإزالتها. برأيي، من المستحيل أن نبني مجتمعاً قابلاً للعيش من دون هذه المعرفة. طبعاً، على شرط ان يكون المجتمع يشبه الطلل. ليس بالمعنى الإستيتيكي، بل بمعنى إظهار قطب الجروح والشقوق، بدلاً من إخفائها. لأن المواد التي ستبني بها، جبَلَها التاريخ، وفيها كثير من الألم.
لكني أعتقد أن اللبنانيين عموماً يرفضون الفكرة، ويفضلون إعادة بناء شيء يكون جميلاً. لا يريدون بناء بلد يشبههم، كما يحاول الفن أن يفعل. بلد لا يلمع، يسمح لهم بالعيش على قدر إمكاناتهم. على ما يبدو، سيعيدون الدورة كما هي، وسنستدعي أسطورة الفينيق مرة جديدة ونفصل براءة الوطن عن وسخ الدولة ونسمع فيروز. لكن، في النهاية، في الفن تحصل أشياء اخرى، وآمل في مجيء أشخاص بإمكانهم القيام بذلك.



- بالمناسبة، كم جيل من الفنانين ظهر بعد انطلاقكم في المجال؟

هناك مجموعة ناقشتنا أو حاولت إنتاج أعمال تناقشنا. في بعض المجالات نجحوا، وفي أمكنة أخرى كانوا أقرب إلى التلاميذ. هناك مجموعة ثانية لم تنظر نحونا أبداً، كأننا لم نكن موجودين بالنسبة اليهم. تركيزهم على الموسيقى بشكل أساس، تحديداً الذين يدورون في فلك مهرجان "إرتجال". هؤلاء نجحوا في الخارج لأن النمط الذي يقدمونه مطلوب. هناك أيضاً مجموعة ثالثة ظهرت مع أفكار حول أزمة الرأسمالية العالمية، الأنثروبوسين والإيكولوجيا ... عملوا على مستوى أن لبنان هو جزء من الكوكب. اعتقد هؤلاء هم الأكثر تأثراً سلباً خلال الأزمة لأن خياراتهم محصورة قليلاً، وعليهم العمل في الخارج...
طبعاً جيلي أيضاً يعيش في الخارج ويستثمر في ما حققه سابقاً. لكن من الذي سيقوم بهذا العمل الجديد؟ أتمنى ان تكون مجموعة عابرة للأجيال، حتى ولو صغيرة، تلتقي باستمرار. من ناحيتي حين شاهدت معرض بسام قهوجي، شعرت كأني في العام 1992 من جديد. ورغم أن زوجتي وأولادي يرغبون في المغادرة، فأنا أرغب في البقاء وأشعر بالشباب مجدداً وبأن لدي ما أقوم به. ربما لأن عملي في الجامعة يضمن ألا أجوع، خلافاً لآخرين يركضون للحصول على اللقمة.

- لدي فضول لمعرفة تقسيمك للزمن خلال العقود الثلاثة الأخيرة. قلت لي أن هناك مرحلة بدأت في اوائل التسعينات وانتهت العام 2005 أو 2006؟ 

نعم وبالمناسبة، هناك فترة سابقة على العام 1992 ايضا. لم أكن أنا في بيروت يومها، وأشعر برغبة التأريخ أكثر لتلك الأعمال التي كان بعضها جيداً، لكن لماذا لم يجتازوا الإمتحان؟
هناك أيضا مرحلة من 1992 حتى 1997. كان الفنانون يعملون محلياً فقط، من دون أن ينتبه لهم أحد. كنا نعرض في زيكو هاوس بلا طموح عالمي. كان البلد كافياً لنا وأكثر، خصوصاً بعدما أزيلت السواتر بين الشرقية والغربية. في العام 1997 مع بداية مهرجان ايلول، بدأ القيمون الفنيون بالمجيء من الخارج، وأصبح سفر الفنانين للقيام بمعارض أسهل. هي فترة صعود الفن اللبناني، التي شهدت انطلاق "أشغال داخلية" ومجيء الناس من الخارج وحصول شغل جيّد بشكل عام.
أما من العام 2006 حتى اليوم، فهي بالنسبة لي مرحلة واحدة. لكني، منذ عامين، شعرت حين رأيت ذلك العمل التزييني الذي ظهر على برج المر، أننا انتقلنا من مرحلة ما بعد الحرب إلى زمن آخر. كتبت يومها نصاً طويلاً قلت فيه: "مجرد أن يقوم أحدهم بهكذا خطوة تزعم أن ترددات الألوان يمكن أن تشفي الجروح، معناه أننا صرنا في وقت لا نتذكر فيه تحديداً ما حصل، والحرب أصبحت مثل رائحة أو ذبذبات".
أين أصبحنا؟ في النص الذي كتبته قلت اننا صرنا في المكان/التموضع Subject positioning الأساسي هو للضحية. في الفترة نفسها كان قد صدر كتاب لأسعد شفتري بالفرنسية، ما جعلني أفكر بكيفية تحول شخص مثله إلى نجم، منذ أن نشر اعتذاره في "النهار" العام 2000. حين تقرأ الكتاب، تزداد اقتناعاً بأن عمل مؤسسات مثل "أمم"، والادعاءات حول الذاكرة، هو مجرد أكاذيب.
بما أننا نتحدث عن الموضوع، يمكنني إخبارك قصة. في العام 1997، في الدورة الأولى من مهرجان أيلول، شاركت بمعرض في معهد "غوته"، حول علاقة صالون في الحازمية مع مخيم تل الزعتر، خلال حصار المخيم العام 1976.  كنت طفلاً يومها، لكني ما زلت أذكر أن منزلنا أصيب بقذيفة، وبأن أغاني فيروز تم تبديل كلماتها لتصبح ميليشياوية. قبل المعرض، سألت أفراداً من العائلة وبعض الأصدقاء عن تلك الأغاني وكان الجميع يتذكرها. اي شخص من عمري عاش تلك الفترة لا بد مرت عليه تلك الأغاني. في المعرض، عرضت شريط كاسيت فارغاً، كتبت في غلافه الخارجي كلمات تلك الأغاني التي وصل عددها إلى 12 أغنية.
بعد افتتاح المعرض اتهمني معهد "غوته" بأني قمت بتأليف كلمات الأغاني وبأني أحرّض على عودة الحرب الأهلية. كانوا على وشك إغلاق المعرض لولا تدخل الياس خوري الذي وصل إلى حل وسط، يصار فيه إلى سحب الأغاني فقط وإبقاء المعرض. وقفت يومها في الخارج، وقمت بتوزيع الكاسيت على الزوار لدى خروجهم.

- قلت لي أن القيمين الفنيين Curators ظهروا في هذه الفترة نفسها في بيروت. كيف كان التفاعل معهم؟

المرة الأولى التي رأيتهم فيها كانت حين قالت لنا باسكال فغالي أن هناك مجموعة من القيمين يريدون لقاءنا في مقهى المودكا (الحمرا). ذهبنا، وصرنا نجلس معهم بالدور، واحداً تلو الآخر. التقيت قيمة فنية من بلجيكا، قالت لي انها احبت معرضي لكن المهرجان الذي تعمل فيه متخصص في المسرح، فهل لدي مشكلة في تغيير المعرض ليصبح أقرب إلى الأداء؟ كان الوضع مغرياً يومها لدرجة اني لم اجد مشكلة في القبول. لكن حين عدت إلى المنزل شعرت بالقرف من نفسي لأني كنت مستعداً لتغيير المعرض كله فقط كي أسافر.
لا شك في أن حضورهم كان قوياً في بيروت والفن المعاصر، قيل لنا إن أردتم أن تأتوا، فتعالوا، لكن بشروط. لم أوافق على الذهاب، وكتبت نصاً يومها في الملحق الثقافي عنوانه "كيف تنتج الحرب نجوماً".
من الضروري اليوم أن نفهم شروط الفن. من يحق له الدخول؟ ومن لا؟ في العام 1992 كتب جاك أسود في ملحق "النهار" الثقافي، مقالاً عن مجموعة فنانين قدموا عرضاً أدائياً، بينهم فنان اسمه عماد عيسى، وضع نفسه في تابوت، وحمله أصحابه وداروا به في وسط بيروت. كتبت الصحافة عن العرض يومها، وهناك صور صغيرة توثق ما حصل. لكن لماذا لم يدخل فنان مثل عماد عيسى إلى عالم الفن؟ أو إلى "أشكال ألوان"؟ 

- من كان من الفنانين في تلك المرحلة؟ ما الذي يميزهم؟

هناك مثلاً غريتا نوفل وكاترين كتروزا، وهي إيطالية فرنسية، أعتقد ما زالت موجودة في لبنان. ما يميز عمل هؤلاء، انه كان خاماً وخشناً. مثلاً شخصية عماد عيسى لم تكن تمتلك الثقافة الغربية المطلوبة للدخول إلى عالم الفن. كان خارجاً من حرب، ومصاباً في يده (كان دائماً يطليها بالألوان عندما يكون في معرض فني). قاتل في الجنوب في إحدى الفترات، ويحمل كثيراً من الأسى. منذ أعوام قدم عرضاً أدائياً وبثه عبر "يوتيوب"، احتجاجاً على ما يحصل في غزة. قام أمام الكاميرا بقطع رأس حمامة، ما جعل الجمعيات الحقوقية تحتج عليه!

- هل تقصد أن تاريخ الفن المعاصر في لبنان مصطنع؟ او بمعنى آخر، لسنا نحن مَن صنعه بل آخرون؟ 

الجيد أننا كتبنا كثيراً خلال التسعينات. يمكن لأي شخص أن يجمع هذه الكتابات في مجلد لتشكل تاريخاً. حتى لو أن الأشياء غير مكتوبة بشكل كرونولوجي. الجيد أيضاً أن "أشكال ألوان" اعتادت نشر الكتب بشكل دوري، وفي حال قررت بذل جهد يمكنك تركيب صورة معينة. طبعاً مشكلة تلك الفترة المبكرة أن أشخاصاً مثل عماد عيسى لم يكتبوا عن أعمالهم، وليس هناك من كتب عنهم، باستثناء مقالات متفرقة، وربما جاك اسود. أحاول أنا اليوم التمرد قليلاً على موقعي والتحول إلى مؤرخ، للتفكير أكثر في تلك المرحلة المبكرة من تاريخ الفن المعاصر اللبناني. ليس لخلق أسطورة جديدة عن هؤلاء، بل لفهم شروط ذاك العالم بشكل عام.