بيروت نزار ونانسي وسعد

رشا الأطرش
الجمعة   2020/10/23
مواكب "تيار المستقبل" تحتفل بتكليف سعد الحريري لرئاسة الحكومة (غيتي)
بيروت العالقة والمعلّقة في الزمن. تحترف تقليب مصائرها الكثيرة والأحادية في آن، والتي لا يبدو أي منها نهائياً أو صالحاً للتعويل أو البناء عليه. ورغم ذلك، هي دوماً المصائر القياميّة.. لكن هل القيامة بداية أم نهاية؟ بيروت أسيرة برزخها الخاص. الموت، النكبات، الأزمات، الهجرة، ونداءات إنقاذها وإعادة إعمارها.. هذه ثوابتها شبه الوحيدة. وفي صورة المرآة، دورها "التنويري" في محيطها، مُتعها الصغيرة، حرياتها وثقافتها وصناعاتها القيمية، تنوعها المسموم، وحلاوة روحها المهددة أبداً بالإزهاق. حلقة مفرغة لا يبدو منها فكاك. حياة عنيدة أمام كل ضربة؟ أم قتل محتّم لكل نهضة؟ لا فرق ربما. 

قبل نحو أربعين عاماً، كتب نزار قباني "إلى بيروت الأنثى مع الاعتذار"، وكانت المدينة في عزّ تفسّخها بفِعل الحرب الأهلية، مهجورة من أهلها ومحبيها إلا بما يرسلون من تدخلات في الدم والهلاك. وتغني نانسي عجرم القصيدة نفسها اليوم، وبيروت ممزقة بالانهيار المالي والغلاء وشحّ السلع والخدمات الأساسية. بيروت المكلومة بانفجار المرفأ، والسلاح الفالت والمضبوط على إيقاع العصب، فيما الثورة على "كلن يعني كلن" تحتفل بعيد ميلادها الأول، طفلة عمرها سنة فكّت الحرف وبدأت تهندس الكلام.. فقط. وتغني نانسي، القصيدة، في لحظة عودة سعد الحريري رئيساً مكلفاً بتشكيل حكومة "الإنقاذ"، وهو الذي استقال مع انطلاقة الاحتجاجات، وهو الذي كان بعض الداء، ويُقول حالمون وماكرون إنه سيكون بعض الدواء، مثل الطاقم كله الذي ما زال.. باستثناء جبران باسيل الذي لا ضمانة فعلية لإنجاز خروجه سوى أصداء "هيلا هو" بعيدة تستدرّ ابتسامة.


هكذا هي لعبة المكعّبات البيروتية. كان رفيق الحريري، مستهل التسعينات من القرن الماضي، عنوان بيروت الجديدة، البدء بإعادة الإعمار والانفتاح السياسي والمالي على العالم والنقلة الاقتصادية (وأيضاً بدء تراكم المديونية العامة)، وباكورة تغوّل المصرف المركزي والمصارف اللبنانية.. في مقابل تسليم الأمن و"المقاومة" وممثليهم في البرلمان (ولاحقاً في الحكومة) للنظامين السوري والإيراني ووكلائهما بقيادة "حزب الله" و"حركة أمل". في التسعينات أيضاً، لمع نجم نانسي عجرم عبر "تلفزيون المستقبل" الحريري. كانت نانسي، مثل الشاشة التي أطلقتها، رمز انفجار بيروتي حميد، غزت فرقعاته العالم العربي، أيقونة ترفيه أثارت جدلاً ودهشة وعصبيات، غواية "لبنانية" مجدَّدة هي وجه وجسد بيروت "القائمة من تحت الردم" والتي غنّتها ماجدة الرومي فكانت الموسيقى التصويرية لاتفاق الطائف، وأيضاً من كلمات نزار قباني (أي مفارقة هذه أن أجمل القصائد عن بيروت كتبها السوري نزار قباني والفلسطيني محمود درويش؟!). ونانسي تغني اليوم التسعينات، المأساة والملهاة، العَودُ اللبناني الأبدي. 

وفي 2020، يصدّر سعد الحريري خطاب "أنا ابن أبي" شعاراً لترشّحه وحيداً لرئاسة الحكومة، الشعار المهلهل الذاوي كما تصاب قطعة ملابس برثاثة الغسيل المتكرر. يرث "إعادة الإعمار"، وهو الأعزل من كل ميزات والده، كما من الأدوات الفاعلة التي أتاحها له زمنه السياسي الإقليمي والدولي. في حين يحرد جبران باسيل لأن ثمة من ينتزع منه "طابو" وراثة أبيه الذي لم ينجبه، لكنه، ورغم تفاؤل الشامتين، لن يسلّم بسهولة. إعادة ممسوخة لزمن التسعينات، وبكلفة باهظة هذه المرة، مجازفة بالرمق الأخير.

في 2020، ما زال "حزب الله" و"حركة أمل" في الموقع ذاته، بل إنه توسّع وتعمّق وازداد تأثيراً. وما زال الحزب خارج الدولة، حتى بعدما تغلغله فيها منذ خروج القوات السورية من لبنان. اقتصاده وأجندته شغل دولته، وبطاقة "الساجد" آخر تجليات أبوة الحزب للشيعة، يطعمهم ويحميهم ويؤدّبهم إن دعت الحاجة. لكل طائفة أب راعٍ، لكن الجميع لا يتمتعون الآن بالقوة والدولارات البديلة والشبكة الاجتماعية المتكاملة...

إسحب مكعّباً من تحت، ضَعه فوق، أزِح مكعباً في خطّ أفقي، إنزع واحداً أحمر لتضع مكانه الأصفر أو الأحمر أو الأخضر... هكذا نبني لبنان، وهكذا نهدمه. كأن السنوات ليست سوى عدّاد حيادي لشقلبة المكعّبات، حيوات اللبنانيين الذين، إن لم يموتوا أو يتحاربوا، ما زالت أمهاتهم توضب لهم الزعتر والمربّى في حقائب السفر، كما في كليب نانسي الجديد. الفرق الوحيد الآن أن هؤلاء الذين يسافرون بالطائرة هم المحظوظون، صفوة جديدة حزينة، وللبقية قوارب مطاطية وبحور تغرقهم وسفارات تماطلهم.