سمير سلامة.. التجريدية جاءت من معلولا

بشير البكر
الإثنين   2020/10/19
سمير سلامة
رحل الفنان التشكيلي الفلسطيني سمير سلامة في عيد ميلاده الخامس والسبعين في 16 آب2018. توفي في الضيعة الفرنسية التي كوّن فيها أسرة صغيرة، وأقام مرسمه بعيداً من صخب باريس، خصوصاً أنه تقاعد العام 2004، وقرر أن يتفرغ لأعماله التشكيلية المؤجلة منذ أن بدأ رحلته في درعا، منتصف ستينيات القرن الماضي. ولم يتحقق لسمير حلمه بأن يموت ويدفن في فلسطين التي كانت قضيته الأولى وشاغله الأساسي في الفن وخارج الفن. وكان اتفاق أوسلو قد سمح له بالعودة الى هناك العام 1996 ضمن كوادر منظمة التحرير الفلسطينية، وحين ذهب يبحث عن مسقط رأسه في صفد، فشل في العثور على البيت الذي ولد فيه العام 1944، وشكل له ذلك  ألماً خاصاً، لا يقل عن مرارة التوزع بين باريس ورام الله، حيث بدأ يؤسس مع زملاء آخرين، مؤسسات تشكيلية فلسطينية، من بينها أكاديمية للفنون الجميلة، وأراد أن ينقل تجربته إلى الأجيال الفلسطينية الجديدة، هو الذي تخرج في كلية الفنون الجميلة بجامعة دمشق، وأكمل دراسته في الـ"بوزار" (المدرسة العليا للفنون الجميلة) القريبة من متحف اللوفر في باريس، لكنه لم يتفرغ للرسم، بل كرس جزءاً من وقته وحياته لفلسطين.

سمير سلامة أحد الفنانين التشكيلين الفلسطينيين المتميزين. يقع بين الجيلين الأول والثاني في الحركة التشكيلية الفلسطينية التي تعتبر أساسية في الفن التشكيلي العربي، والذي نهض بقوة في العالم العربي منذ أوائل ستينيات القرن الماضي، وبرزت مدارس وأسماء وصلت إلى العالمية من سوريا والعراق ومصر وفلسطين وتونس والمغرب والجزائر والسودان. وتعد السبعينيات مرحلة وسيطة ما بين الجيلين، ويحمل كل من برز فيها متانة الكلاسيكة، وأسئلة الحداثة وقلقها ومشاريعها، لكن جيل سمير لا يضاهي في عدده الجيل الأول الموزع بين الداخل والخارج، مثل سليمان منصور واسماعيل شموط، ومصطفى الحلاج، تمام شموط، جمانة الحسيني..إلخ. وفي دراسته بكلية الفنون بدمشق تتلمذ على أيدي أساتذة وفنانين على قدر كبير من الحرفية والشهرة مثل فاتح المدرس ونذير نبعة والياس زيات ومحمود حماد، ونصير شورى، وانتقل بعد تخرجه العام 1972 الى بيروت التي كانت ورشة ثقافية كبيرة، حيث تعرف على تجارب حداثية لا تقل أهمية عن التجارب السورية والعراقية مثل بول غراغسيان، رفيق شرف، سمير الصايغ، عارف الريس، شفيق عبود..



ورغم أن سمير عايش تجارب مختلفة وجرّب الانتقال بين المدارس، فإنه كان اقرب الى المدرسة التجريدية منذ البداية، وحين كنت أنظر في أعمال السنوات الأخيرة كنت أحس بأنه أمضى عمره وهو يخلط الألوان كي يصل إلى مادته الخاصة وألوانه المفضلة والحميمة، وعندما يتأمل المرء لوحة من أعمال سمير يجد أن عينه كانت على الدوام مسلّطة على الطبيعة والحقول والبحار والأفق الأرجواني وسائر تجليات الطبيعة التي رسمها بتعبيرية تجنح غالباً إلى التجريد. وفي حوارات دارت بينه وبيني في أكثر من مرة وفي أكثر من مكان وزمان، في بيروت وباريس وتونس، كان السؤال دائماً هو كيف وصل إلى هذا الخيار، وهو القادم من عالم شديد الواقعية، حيث شارك في الورشة الثقافية الفلسطينية التي نشأت على ضفاف الثورة في بيروت، وكانت البدايات مع "البوستر" (الملصق) الذي برز كأحد وسائل التعبير المباشرة والسريعة، ومارسته غالبية الفنانين طيلة فترة الثورة الفلسطينية، خصوصاً في مرحلة بيروت. وبعيداً من القيمة الفنية الجمالية للكثير من الإنتاج، فإنه يشكل ثروة فنية ووثيقة تشهد على مرحلة أساسية من النضال الفلسطيني، ولا أدري ما إذا حُفظت نسخة على الأقل من كل أنتج وشارك فيه عدد كبير من الرسامين، ولم يقتصر على الفلسطينيين وحدهم، بل برز لبنانيون، وسوريون ومصريون، ومن أبرز هؤلاء الفنان والمصمم أميل منعم، الذي كان مبدعاً في هذا المجال، وتعامل مع الملصق بحرفية بعيدة من الارتجال.

ويردّ سمير على السؤال بالقول، انه انشدَّ للتجريد لأنه يناسب مزاجه ونظرته، وهو لا يميل للمباشر رغم أنه فنان واقعي: "المفردات البصرية تجعل الفنان يذهب باتجاه معين فحتى في الواقعية كنت أميل إلى تبسيط الأمور لكي تكون فيها حياة". ويقول ان هذا الوحي جاءه في مدينة معلولا السورية التي تعد ملهمة الرسامين، ولا يوجد رسام من السوريين او ممن عاشوا او زاروا سوريا لم يرسم معلولا القرية الواقعة على بعد 50 كيلومتراً من دمشق ، ولسمير لوحة في معلولا يعتبرها هو تجريدية ، ويعترف انه حين وصل إلى القرية، اكتشف فيها شيئاً جميلاً، "ويبدو أنها أثرت فيّ حتى اليوم، فقد بدت وكأنها مبنية مثل هذه اللوحة التي أرسمها الآن- بيوت مركبة فوق بعضها البعض، هنا شباك وهناك خشب، وكأنها تجريد". يضيف "كأنني خُتمت أو طُبعت وتأسست بالتبسيط لمستوى معين، وفهمت بعد ذلك بأن عليّ أن أبحث لكي أتطور كفنان، لا أن أكون أسير فكرة أو أسلوب وأن أضع نفسي بهكذا قفص فظللت أطوّر نفسي". ولدى الحديث عن فناني التجريد، فهو يجد نفسه أقرب إلى كل من: سيرجي بلياكوف الذي عاش في فرنسا، وهو من أصل روسي، والفنان الإيطالي موراندي، والروسي نيكولا دستيل، وكلهم تجريدي.



هذا تحدٍّ كبير واجهه سمير. لأنه بدأ يرسم ملصقات، وعاش وسط طغيان المباشرة، لكن ما ساعده في كسر القفص وتقديم لوحة تشكيلية مختلفة ومتميزة بعيدة من المباشرة والشعاراتية التي كانت دارجة جداً، هو ذهابه إلى باريس للدراسة في الـ"بوزار"، وهناك حقق حلماً كبيراً، لكنه لم يتفرغ كلياً للدراسة أو الفن، لأنه كان عليه أن يناضل من أجل فلسطين، وأن يكسب قوت حياته. وكانت باريس في فترة وصول سمير تعج بالشباب المتحمسين لفلسطين من حول مكتب منظمة التحرير الفلسطينية الذي كان يديره عز الدين القلق، الذي وجد سمير نفسه إلى جانبه ليفكرا معاً في كيفية خدمة القضية الفلسطينية من خلال الفن التشكيلي، فشكلوا "فنانون من أجل فلسطين"، بمشاركة السوري خزيمة علواني، الفرنسي كلود لازار، والجزائري رشيد قريشي، وآخرين. وكانت لدى سمير تجارب سابقة في هذا المجال من خلال عمله في الإعلام الفلسطيني الموحد في بيروت، حيث ساهم في تأسيس قسم الفنون التشكيلية الى جانب اسماعيل وتمام شموط ومصطفى الحلاج وتوفيق عبد العال وعبد الرحمن المزين ومنى السعودي وآخرين.

لم تكن رحلة سمير سلامة سهلة أبداً، وكما أشرت فإن المعضلة الرئيسية تكمن في قدره الخاص الذي بدأ بالنزوح من فلسطين في عُمر أربع سنوات، واللجوء إلى سوريا في درعا النائية جنوباً، ووضعته المصادفة في لقاء في مدرسة درعا مع الفنان السوري ادهم اسماعيل الذي كان يدرس الفنون التشكيلية فشجعه على الرسم، وساهم في دفعه نحو كلية الفنون الجميلة في دمشق، والتي تخرج منها بامتياز، وبدلاً من أن يكمل مشاريعه في الرسم ذهب نحو النضال، في لحظة لم تكن لديه خيارات ولم يكن مترفاً إلى حد أن ينصرف للرسم فقط، ورغم ما واجه من مصاعب وصدمات، لم يكن تبدو عليه سوى سعادة الطفل البارع في التلوين، عاشق رامبرانت شريك الضوء، التجريدي، وما بعد الحداثي الذي لعب على الحروفية العربية وتضمين اللوحة قصائد محمود درويش، سميح القاسم، معين بسيسو، لوركا.



بقيت لدى سمير مسألة لم يجد لها حلاً وهي المكان الأول، البيت مسقط الرأس في صفد، والذي ذهب يبحث عنه في العام 1996 حين توافرت له امكانية العودة من خلال السلطة الفلسطينية، لكنه لم يعثر عليه. وكثيراً ما حدثني سمير عن هذه المسألة، فهو ترك فلسطين وعمره 4 سنوات باتجاه لبنان، ومن ثم سوريا، وبقي يعتقد أنه يحتفظ بكل تفاصيل المكان، وحين عاد لم يستطع تحديد مكان البيت، وهذا يعني أن ما كان يختزنه في ذاكرته ليس سوى الحلم بالمكان وصورة رسمها هو كي لا ينسى انه ترك بيت الطفولة هناك، ورغم أنه لم يعثر على المكان فإنه لم يتنازل عن الحلم، وهذا ما بقي له وورثه لابنته نايا، وعلى حد قول محمود درويش "الطريق إلى البيت أجمل من البيت".

رسم  سمير أربعين عملاً في العام 2015 رغم مرض السرطان الذي أصابه في هذه الفترة، بعضها يصل في الحجم إلى متر ونصف المتر. وقبل سنة من وفاته، قال وهو يلهث خلال معرض له في مدينة رام الله حينما قصد حفلة الافتتاح بسيارة اسعاف وجهاز تنفس محمول: "ردّت لي الحياة حين وجدت نفسي في فلسطين.. أيها الموت هزمتك الفنون كلها.. لم أخضع لمرض السرطان ولم أعطه أي اهتمام، ورفضته باستمرار، لكن القدر أقوى منا جميعاً، وبالنسبة إلي فإن وجودي سيتواصل عبر أعمالي، وهذا ما يهمني".

وكما أشرت لم يستثمر سمير وقته جيداً ويتفرغ للرسم، والسبب أن ظروفه الحياتية كانت صعبة، ولم يكن لديه مصدر دخل يسمح له بالتفرغ، في حين لم يكن يتوانى عن أي مهمة نضالية. ويستحق تراث سمير أن يتم جمعه والحفاظ عليه لأنه ليس تفصيلاً في الحركة التشكيلية، بل هو أحد الذين شاركوا في صنعها شكلاً ومضموناً، وحين ننظر اليوم إلى نتاجه الفني وندرسه، فإننا نجد فيه الفنان الموهوب المبدع والمناضل، وفي الوجهين عاش في خفر وتواضع شديدين، وطاقة عالية على الصبر والعطاء ونكران الذات.