إيهاب شاكر.. طفولة الفن وتمرّده

شريف الشافعي
الخميس   2020/01/16
تعاطى شاكر مع المرأة بوصفها سيمفونية الموسيقى المنتشية
يستمد الفن وجوده من تلك القدرة الفذة على التقاط أجمل اختراعات الخالق، ويسعى الفن صوب خلوده بتلك المحاولات الخارقة، الرامية إلى تخطي الأسوار والحواجز للإتيان بفعل الخلق نفسه، وصياغة وجود جمالي يليق بإنسانية الكائن الآدمي، المتعطش إلى براءة الصلصال ومنابع الضوء الكامنة في الروح والضمير.
وإذا كانت الثورية هي كلمة السر المعلنة التي يتخذها الفن مفتاحًا لبلوغ التفجير وإثبات الهوية ومخالفة السائد والتزحلق فوق الثوابت والقوانين، فإن الطفولية هي الوهج الخفي الذي يتحقق به فعليًّا الانفلات المأمول، وهي أبواب الدهشة السبعة التي حين يعبرها الفنان وجمهوره معًا، تصير نبضات القلوب إيقاعات محفّزة على الطيران.


في تجربة التشكيلي المصري الرائد إيهاب شاكر، الذي غيّبته المنيّة في نهاية ديسمبر/كانون الأول الماضي عن 86 عامًا، تُجمّل ضربات الفرشاة المتمردة وطرطشات الألوان العفوية صورة الحياة المألوفة، لكي تتماسك في مواجهة متناقضاتها وانهياراتها، ويتأتّى وقود الفن من مصادر حيوية خالصة، كطاقة موجودة بذاتها، وخميرة أزلية لا يتبدد نشاطها.

لربما انطلت على شاكر تسمية من قبيل "فنان الألف وجه"، كونه عنوانًا عريضًا لمجالات فنية متنوعة، منها لوحات التصوير والكاريكاتير وأغلفة الكتب والمجلات وأعمال الأطفال والرسوم المتحركة وغيرها، لكن الصفة الألصق بشخصية الفنان في سائر انشغالاته على مدار أكثر من نصف قرن، هي الطفولة المتمردة، والتمرد الطفولي.
 

لقد تفاعل إيهاب شاكر، مُبتكر "شمسة" و"دانة" و"فضولي" والشخصيات الشهيرة في مجلة "ماجد"، مع عبث العالم بعبث مضاد، فإذا كان الخراب والدمار والتلوث والمادية والانتهازية والقيم الاستهلاكية والطغيان والاستبداد والحروب والشرور المتكالبة من كل حدب وصوب قد بلغت ذروتها إلى حد الشطط، فإن الفن بمقدوره الغلو كذلك في إشاعة التفاؤل والبهجة والمرح والسلام النفسي والطمأنينة، واستثارة الخلايا الراقصة الحالمة لدى الإنسان، والآمال المستحيلة، والرغبة المحمومة في الإصلاح والتغيير.

بهذه العيون الجسورة التي تنتخب الجمال تلقائيًّا وتتغاضى عن عناصر القبح والفساد في الواقع، وبهذا القلب النابض بصخب وعنفوان، أطل إيهاب شاكر على ثورة 25 يناير2011 وهو يدنو من عامه الثمانين، مصوّرًا نساءها ورجالها وراياتها الخفاقة، وطيور أمنياتها وأغنياتها المحلّقة، وهتافات ميادينها، بتدفق لوني وشعوري يفيض انتشاء ويعكس حركة "تقدمية" نحو الأمام، سلمية في جوهرها الحضاري، لكنها لا تفتقر إلى القوة والإصرار والقدرة على الاقتحام.

كان منطقيًّا انحياز شاكر لثورية المشهد في الشارع، والجماهير المتأججة حماسة وغضبًا، فهو المشحون بثورية الفن على صعيد الفلسفة والفكرة والجماليات والأدوات والآليات المتحررة من التحنيط الأكاديمي والجمود المدرسي، وهو المنجذب إلى طفولية الاختيار السليم بدون الحسابات المنطقية المعقدة التي قد تعرقل الاندفاع وتعوق الخطوات، وهو السالك من قبل دروبًا لا تُحصى في معركة الرفض والاحتجاج، برسومه الكاريكاتيرية الناقدة اللاذعة على صفحات "الجمهورية" و"روز اليوسف" في النصف الثاني من القرن الماضي.

استوعب إيهاب شاكر في تجربته مقوّمات الشخصية المصرية الصامدة المقاومة، الهازئة بمأساتها الجاثمة، المتهكمة على أحوالها حتى في أحلك الظروف، وتضافرت في لغته المركّبة، المُضحكة المُبكية ككوميديا سوداء، عناصرُ الوجدان الشعبي من سير وملاحم وبطولات وأيضًا إخفاقات وانكسارات، وتلاقت الجغرافيا الصلبة والتاريخ الحافل والإنسانيات الهشة معًا في أعماله ذات البعد الأسطوري والحس السردي والطابع الموسيقي الانسيابي، فكأنها أنفاق عميقة تقود الذاكرة إلى ما كان، وتستقرئ ما هو كائن، أملًا في توليد رؤية أبهى لما سوف يكون.
في غوصه وراء كل ما هو مصري، عمد إيهاب شاكر إلى تقصي سائر التفاصيل، وحظيت الرموز والدوال الفرعونية والقروية بحضور كبير في أعماله الحكائية عبر مراحله الفنية المتتالية، مثل أيقونات العروس والديك والأسد والحصان والعصفور والسمكة وغيرها، كما تعددت مشاهد بعينها مثل المناسبات الاجتماعية والاحتفالية وسرادقات الأفراح والعزاء والموالد وحلقات الذكر والإنشاد وغيرها، بمسحة تجريدية خرجت بها من دائرة الخصوصية الضيقة إلى حيز إنساني عام.

هذه النزعة السردية لدى شاكر جعلت رسومه المصاحبة للنصوص الأدبية وقصص الأطفال وأغلفة الكتب والمجلات وغيرها إبداعًا تخييليًّا موازيًا، مستقلًّا بذاته، شأنها شأن لوحاته الأخرى، التي تحكي وتصف وتمثّل وتجسّد وتمتلك الفراغ بديناميتها وتأسر الحواسّ مجتمعة وليست فقط الملكة البصرية، مثل سينوغرافيا مسرحية متعددة العناصر، أو كشريط سينمائي زاخم.

حمل إيهاب شاكر على عاتقه مسؤولية التجريب الفني منذ أعماله الأولى كتلميذ نجيب للفنان الإيطالي كارلو مينوني، وتعاليم مدرسة دافنشي التي التحق بها في سن مبكرة قبل نيله بكالوريوس الفنون الجميلة في منتصف الخمسينات. وعلى مدار رحلته، ظل شاكر على قلقه وتوتره وشغفه بالمغامرة والابتكار، فمع مزج الخامات والألوان المتنوعة (الأكوريل، الفحم، الزيت على الخشب وعلى توال، ألوان الخشب على الورق، الخ) تمكن من إيجاد توازنه الخاص بين الخطوط والألوان والأشكال والإيقاعات الموسيقية والشعرية والأنساق التعبيرية المختلفة، في ما يحقق ببساطة مبادئ وحدة الفنون.

هذه التوليفة التي فتحت ذراعيها للمفارقات والمتناقضات، دفعت الفنان إلى إمكانية رسم نغمات الموسيقى وتحويل ذبذباتها وصوتياتها إلى خطوط وظلال مرئية في سلسلة من المعارض المذهلة، كما أوصلته إلى تضفير الثيمات الموروثة (الشعبية والفرعونية والإسلامية) والحداثية الوافدة، والواقعية والسريالية، والتشخيصية والتجريدية، والتجسيد والتصوف، والمبالغات الكارتونية والنزعة التأملية الفلسفية، وفي هذه التيارات كلها كان إيهاب شاكر يبحر بإخلاص، لكنه لا ينجرف إلى اتجاه دون غيره، فمن خلال شخصيته المنفردة يعيد استقطار المعرفي بمنظور فني ذاتي، قوامه البهجة، وجناحاه: التمرد والطفولية.

وفق هذه الرؤية، تعاطى شاكر مع المرأة بوصفها سيمفونية الموسيقى المنتشية والأرض الخصيبة والملاذ الآمن من وعثاء الطريق، وهي في الآن ذاته الحبيبة والرفيقة والشريكة في الكفاح، وهي كذلك مهاد الطبقات الفلسفية العميقة، والتساؤلات الكثيرة والتأملات حول الميلاد والحياة والموت والمصير والخلود.

إيهاب شاكر، صيّاد نادر تمددت شباكه السحرية لتقتنص إلى جانب الأسماك الملونة، عرائس البحر، والحوريات، والجنيات، والسفن الغارقة، والرحلات التي لم يبق لها أثر، والبشر القادرين على خوض غمار الموج المتلاطم، وقهر كافة العوائق في مشاوير البرّ الطويلة، وفي أسفار الفضاء.