كباش الأقصر في ميدان التحرير.. تجميل أم ترويض؟

أسامة فاروق
الأربعاء   2020/01/01
كباش

 

على مدار تاريخه الطويل الممتد من منتصف القرن التاسع عشر، كان ميدان التحرير شاهدا على أحداث غيرت وجه مصر عدة مرات. شهد مظاهرات وأحداث دامية، وسالت على أرضه دماء شهداء لا حصر لهم في مصادمات مع كل سلطة تقريباً، لذا جرت محاولات عديدة للسيطرة على ذلك الوحش العملاق وترويضه، أبرزها ما جرى بعد ثورة الضباط الأحرار في 1952 حيث تم تغيير اسمه من ميدان الإسماعيلية نسبة إلى منشئه الخديوي إسماعيل، لميدان التحرير في احتفالية ضخمة أعدها الجيش في الميدان بمناسبة مرور ستة أشهر على قيام الثورة.

في دراستها المهمة عن "ساحات التغيير والغضب" المنشورة بالعدد 11 من مجلة "أمكنة" تقول جليلة القاضي، أستاذة تخطيط المدن، إن الاحتفالية استمرت أربعة أيام توحد خلالها الجيش والشعب وعاشا حالة من التوهج الثوري "قبل أن تنهى منظومة الحكم الجديد دور الميادين كساحات للغضب أو البهجة لعدة عقود". في إطار سعي السلطة لتحقيق هذا الغرض تم تغيير الكثير من معالم الميدان، بإضافة بعض المنشآت وإزالة أخرى، حيث شيد المجمع، هذا المبنى الإداري الضخم في موقع قصر الإسماعيلية القديم، وشيد فندق الهيلتون، ومقر الجامعة العربية على أطرافه، في الستينيات أعيد تخطيط الوسط وشيدت حديقة تتوسطها نافورة للمياه، ثم أنشئت محطة مركزية لأتوبيسات النقل العام أمام المدخل الشرقي للهيلتون. وفى 1970 وهدمت فيلا هدى شعراوي التي كانت تحتل ناصية الميدان في تقاطعه مع شارع قصر النيل، كذلك السجن الذي كان مقابلا له، ثم أزيلت النافورة بعد ذلك "تقلصت وظائف مركز المركز، لكنه احتفظ بوظيفتين فقط، كعقدة انتقالية للحركة الميكانيكية وإعادة توزيعها، بالإضافة إلى التوقف، والجلوس والنزهة، خاصة في ليالي القاهرة الصيفية الساخنة".

في ثورة 25 يناير 2011 عاد لميدان التحرير حضوره التاريخي الكبير، كقبلة للرافضين، وساحة للاحتجاج السلمي، بعد فترة كمون طالت خلال عهد مبارك، وتوهج بسيط لعدة مرات في عهد السادات، كان وسط القاهرة محور الأحداث، ومحركها من البداية، فتح ميدان التحرير أبوابه للجميع، وكانت المقاهي ودور النشر والمكتبات وكل الأماكن الثقافية والفنادق وحتى الشقق السكنية مأوى للمعتصمين على مدار الأيام الـ18 وبعدها أيضا. استعاد الميدان سلطته وهيبته وفرض كلمته، واستقبل النجاح، واستخدم من الأطراف كافة. لكنه يظل مرعباً رغم كل ما جرى.

حاليا تبدو الحكومة المصرية حائرة أمام هذا العملاق الضخم، الذي استنفد أغراضه بالنسبة لها، فتاره تضع المتاريس والحواجز الإسمنتية على محاوره المهمة ومبانيه الحيوية، وتاره تزيلها، تارة تجمل الصينية التي تتوسطه (الكعكة الحجرية الشهيرة) وتارة تتركها جرداء مصفرة، بنت قاعدة حجرية، ثم أزالتها، لتعلق صارياً يحمل علما ضخما، ومؤخرا أصبح الميدان كله رهن عملية تطوير غير واضحة المعالم؛ ألواح خشبية وتشكيلات حديدية وملصقات صفراء، معدات ورمال وهياكل إسمنتية، تضغط على الكعكة وتأكلها من أطرافها.

الخميس الماضي وعقب انتهاء أول اجتماع لمجلس الوزراء، بعد التعديل الوزاري الأخير، توجه رئيس مجلس الوزراء المصري، مصطفى مدبولي، مباشرة إلى ميدان التحرير. رافق مدبولي في زيارته التفقدية الأولى للميدان منذ توليه مسئولية رئاسة الوزراء العام 2018: وزير الآثار الذى أصبح يتولى وزارة السياحة أيضا بعد دمج الوزارتين! ووزير التنمية المحلية، والإسكان والمرافق والمجتمعات العمرانية، ومحافظ القاهرة.

جولة رئيس الوزراء كشفت تفاصيل ما يجرى في الميدان، حيث أوضحت شركة المقاولون العرب التي تتولى الأعمال أنه بدأ العمل فعلياً في زراعة نخيل وأشجار زيتون في المنطقة المحيطة بالميدان، وإزالة اللافتات التي تحجب واجهات العمارات ذات الطراز العمراني المتميز، وكذا تجهيز منطقة وسط الميدان، تمهيداً لنقل مسلة فرعونية لتزين "صينية" الميدان، فضلاً عن دهان واجهات المحلات والعمارات، وستعود للميدان نافورته مجدداً. وبدوره وجّه رئيس الوزراء بوضع برنامج زمني محدد لإتمام أعمال تطوير الميدان، وإعادة رونقه، وإبرازه على نحو حضاري، بما يشمل "رفع كفاءة الميدان المخطط تزيينه بمسلة فرعونية وعدد من تماثيل الكباش، حيث سيتم نقل أربعة تماثيل ضخمة لكباش (تماثيل على شكل أبي الهول برأس كبش)، وهى الموجودة بفناء معبد الكرنك بمدينة الأقصر".

وقال رئيس الوزراء خلال الجولة: ميدان التحرير هو أحد أشهر الميادين في مصر، بل وفي العالم، والحكومة مهتمة بإظهاره في أبهى صورة، ليكون مزاراً، ضمن المزارات الأثرية والسياحية في المنطقة، مضيفاً أن هناك تكليفاً من الرئيس السيسي بتطوير القاهرة التاريخية، مع انتقال الوزارات الحكومية في العام المقبل للعاصمة الإدارية، وهو ما يسمح بعودة القاهرة لدورها التاريخي والثقافي والسياحي والأثري، وأوضح أن انتقال الحكومة للعاصمة الإدارية الجديدة سيكون "فرصة للاهتمام بالقاهرة ومبانيها التاريخية، ومعالمها الأثرية والسياحية"، مشددا على أنه يضع مخططات تطوير العاصمة "القاهرة" على أجندة أولوياته.

بعد ساعات من زيارة رئيس الوزراء إلى اميدان بدأت موجة من التعليقات على مواقع التواصل تحاول فهم تصريحاته، ومتسائلة عن فكرة نقل تماثيل المعبد، وكيفية تنفيذها، وضمان سلامتها، وجدواها من الأساس. قالت التعليقات إن نقل تماثيل الكباش تخريب للمعبد، وخروج للأثر من سياقه التاريخي، علاوة على تعرضه لعوامل التلوث في واحدة من أكثر بقاع العالم تلوثا، كما أن التصريحات التي نقلت الأمر كأنه حدث عادي متكرر لم توضح طريقة عرض التماثيل ولا مكانها، ولا سبل حمايتها.

الاعتراضات والتساؤلات دفعت وزارة الآثار -التي أصبحت السياحة والآثار- لإصدار بيان توضيحي قالت فيه على لسان مصطفي الصغير مدير عام آثار الكرنك إن التماثيل التي سيتم نقلها من معبد الكرنك إلى القاهرة لتزين ميدان التحرير حول المسلة التي نُقلت بالفعل من منطقة صان الحجر الأثرية في محافظة الشرقية، ليست من التماثيل الموجودة على جانبي طريق الكباش المعروف الذي يربط بين معبدي الأقصر والكرنك، ولا التماثيل الموجودة أمام واجهة معبد الكرنك، ولكن اختيرت من بين تماثيل موجودة خلف واجهة المعبد (الصرح الأول) علي جانبي الفناء، خلف مباني الطوب اللبن التي تركها المصري القديم أثناء أعمال بناء الصرح الأول. وكأن هذا مبرر كاف لنقلها، طالما أن المصري القديم لم يضعها في مقدمة المعبد!

وقال البيان إن الوزارة تعكف حالياً على دراسة وتوثيق هذه التماثيل بشكل كامل، والقيام بكل أعمال الصيانة والترميم اللازمة للحفاظ عليها. مشيرا إلى أن ذلك "يأتي هذا في إطار الخطة الشاملة لترميم ودراسة هذه التماثيل ضمن آثار معابد الكرنك وذلك بعد موافقة اللجنة الدائمة للآثار المصرية"!

الأغرب أن بيان الآثار أشار في نهايته إلى مشروع ترميم وإحياء طريق الكباش، وقال إنه تم الانتهاء من أكثر من 90% منه، وسوف يفتتح أمام الزائرين خلال عام 2020. ولو راجعت الوزارة تاريخ مشروعها هذا فقط لما وافقت على تنفيذ هذه الفكرة، فالمشروع الذي أشار إليه بيان الآثار تأخر 10 سنوات تقريباً، نتيجة عقبات كثيرة وتوقفات بالجملة، ومجهود كبير جدا عبر أعوام عديدة.

طريق الكباش بناه ملوك الفراعنة منذ 5 آلاف عام ليربط ما بين معبدي الأقصر والكرنك، لتسير به المواكب المقدسة للملوك والآلهة في احتفالات أعياد الأوبت (تجديد شباب الملك) من كل عام، يسير الملك يتقدمه عليه القوم من الوزراء وكبار الكهنة ورجال الدولة خلف الزوارق المقدسة التي تحمل تماثيل الآلهة بينما يصطف أبناء الشعب على جانبي الطريق.

بدأ بناء هذا الطريق الملك أمنحوتب الثالث والذى باشر تشييد معبد الأقصر، ولكن النصيب الأكبر في تنفيذه يرجع إلى الملك نختنبو الأول مؤسس الأسرة الثلاثين الفرعونية -آخر أسر عصر الفراعنة- يوجد على طول الطريق البالغ 2.72 كم وعرضه 700 متر حوالى 814 تمثال منحوتة من كتله واحدة من الحجر الرملي، على هيئتين الأولى تتخذ شكل جسم أسد ورأس إنسان، فالأسد أحد رموز إله الشمس، والثانية على شكل جسم حيوان ورأس كبش، وهو رمز من رموز الإله خنوم أحد الآلهة الرئيسية في الديانة المصرية القديمة، وهو الإله الخالق الذى صنع البشرية، كانت تحيط بهذه الكباش أحواض زهور ومجارٍ للمياه لريها، وتتوسطه أرضية مستطيلة من الحجر الرملي لتسهيل السير عليه، وبين كل تمثال وآخر مساحة تقدر بأربعة أمتار، بالإضافة إلى ما ذكرته الملكة حتشبسوت على جدران مقصورتها الحمراء بالكرنك بأنها قامت بتشييد سبعة مقصورات على طول هذا الطريق.

مرت السنون والقرون واختفى معظم الطريق المقدس، لتظهر بدلا منه بيوت ومنازل عشوائية وأراض زراعية، وتحجب واحداً من أهم وأجمل الطرق الأثرية في العالم وتدفن تحتها تلك التماثيل الرائعة.

كان الكشف عن هذا الطريق قد بدأ في الخمسينات، واستخرجت التماثيل أمام معبد الأقصر، وتحديد الطريق الذى يصل بين المعبدين، ثم قامت هيئة الآثار بالكشف عن الطريق الذى يربط معبد موت بالكرنك، وكذلك بداية الطريق المؤدي إلى معبد الأقصر من ناحية الكرنك ليصل عدد التماثيل المكتشفة إلى 68 تمثالا، ولكن أعمال الحفائر توقفت بعد ذلك لصعوبة نزع ملكية الأراضي المقامة فوق الطريق.

مع الألفية الجديدة تجدد المشروع مرة أخرى، وتم بالفعل الكشف عن أعداد كبيرة من التماثيل التي تشكل الطريق، لكن كثيراً منها كان قد تحطم ودُمرت معالمه تماماً، تعطل المشروع أيضاً أكثر من مرة بسبب اعتراضات الأهالي على نزع ملكية الأراضي والمنازل، وهدم بعض المساجد والكنائس، ثم قامت الثورة وتوقف المشروع مرة أخرى. الآن وعقب تجدد العمل واقتراب الافتتاح، ألم يكن من الأولى نقل التماثيل التي تراها الوزارة زائدة لتعرض في الطريق الأصلي بدلاً من التماثيل المدمرة؟ وألا يكفي هذا التاريخ كله ليدلل على عبثية نقل هذه القطع وعرضها في سياق مغاير تماماً، وبيئة غير ملائمة كليا؟!

لن ننتظر إجابة بالطبع لأن الوزارة اكتفت ببيانها، ولم تلتفت كثيرا للاعتراضات، ولا التاريخ وبدأت بالفعل أعمال نقل التماثيل دون أن تقدم أي تفسيرات أخرى. فقط العودة لدراسة د. القاضي ربما تعطينا تفسيراً مقنعا لما يجري، حيث تقول في إطار وصفها للتغيرات التي أحدثتها الثورة، إنها أعادت صياغة شبكة العلاقات التراتبية بين البشر والأماكن التي احتوتهم في لحظات الغضب أو الاحتفال والبهجة، وأنهم خطوا تاريخاً جديداً لتلك الأماكن خلال مسيراتهم وتجمعاتهم، خالقين علامات مميزة جديدة في المدن "لا تمثل بالضرورة بؤرا بصرية مهمة، ولكنها طبعت الصورة الذهنية كساحات للتغيير وكأماكن انطلاق للحرية والديمقراطية" وخلال تواجدهم في الميادين "أعادوا تشكيل فراغاتها لتطويعها لأغراض متعددة، ثقافية وسياسية واقتصادية واجتماعية، فأعطوا للفراغ العام معنى جديدا" ربما هذا ما يسعى إليه المشروع الجديد، على نحو معاكس؛ تغيير الصورة البصرية القديمة، بملء الفراغات بالكباش والمسلة والأضواء والنوافير، لترويض الوحش ومحو أثر الثورة.