مزاج مصر: أمل.. واقعها: خوف

حمدي عبد العزيز
الأحد   2019/09/22
نجحت ثورة المقاول في تبديد غبش الخوف الجاثم على الصدور
لسنوات بدا أن ما يُعرف بالأمل في أية نهضة قادمة قد انطفأ للأبد.. في 2014 مع انتخاب الرئيس عبد الفتاح السيسي، كان عديدون يتحدثون عن وجود الميدان، وأن فرص النزول مرة أخرى للشارع إذا ما بدا في الأفق ارتداد عما حدث في يناير 2011، سوف تكون متاحة دائما، كانوا يقولون وكنا نقول: إن هذا لن يحدث للأبد.

تقريبا عقد كامل بعد الإطاحة بمبارك في 2011 كاد ينتهي، وتبددت آمال في أية دفعة تدفع مصر إلى الأمام، بل التردي بدا واضحا في كل عام يمر عليها من أعوام العقد، كُلّل هذا التردي بالتنازل عن جزر تيران وصنافير المحوريتين في منطقة خليج العقبة للسعودية، بدا الانبطاح آنذاك حينما انطوت كافة فرص الحوار في الإعلام المصري، وسار الجميع في ركب: الذي يرغب فيه الرجل سيكون. وهكذا بدأ إعلاميون يعبثون بالخرائط، وصحافيون يتذاكون بشأن السيادة المصرية على الجزر، بل ومثقفون يبررون لصنوف من المأجورين الذين حملوا الأعلام السعودية ونزلوا بها إلى ميادين التحرير، ويرون أنهم مدفوعون بالعوز والفقر، كان المشهد في 2015 كئيبا باعثا على وأد أية خفقة أمل في القلوب، ووقتها قررت الانسحاب. والعودة إلى "الكنبة".

خلال السنوات العشر الماضية، تحملت ثورة يناير 2011 كل مسؤوليات التردي الذي أسفر عن الوصول إلى المشهد الحالي. سلطة تكمم الأفواه. تشتري الصحف. تطرد الصحافيين. أو تجبرهم على توقيع إجازات من دون راتب. شركة إعلامية تؤمم وتستحوذ على كل شيء. الإعلام، الصحف، القنوات، ثم شركات إنتاج الدراما... وأخيرا.. تنازل عن أراضٍ، وإفقار متعمد برفع الدعم عن المحروقات للفقراء وإلغاء بعض صنوف البنزين المخصصة لهم، وأخيرا.. حصار السلطة التشريعية والنيابية.. والسيطرة عليها.. وإهانة نائب تجرأ على مراجعة رأس السلطة في سياسات الإصلاح وحصار الحراك السياسي الرافض للتنازل عن الجزر، والإطاحة بالقضاة الذين حكموا بعدم دستورية التنازل عنها، وتسليح مبالغ فيه لا ينهي الإرهاب، ولا يوقف حمام الدم المنهمر كشلال في سيناء ولا يحسم الحرب التي بدأتها السلطة منذ سنوات على الإرهاب، وسط إجراءات اقتصادية بالغة التقشف، ثم أخيرا.. فيديوهات مقاول كاشفة عن وقائع بناء القصور والاستراحات وسط الشدة الاقتصادية التي تعاني منها البلاد، جاءت كنقرات ماء طويلة وغزيرة تفتت صخرة الصبر والجلد عند الناس.

مرت هذه الأحداث بتلك السنوات على بدني وذهني، وأنا لم أقاسِ ما قاساه رموز يناير الذين كانوا في الصفوف الأولى، دومة لم يزل في السجن، وعلاء عبد الفتاح يوقع حضوره في المراقبة في السادسة كل مساء، آخرون تشتتوا وأُجبروا على الابتعاد، صحافيون تركوا منازلهم وعائلاتهم وهاجروا إلى تركيا للعمل في نوافذ محسوبة على جماعة الإخوان، ثم نُكل بهم وأجبروا على تركها أو سُرحوا منها، ومثقفون يعيشون في منافٍ لا يملكون عودة إلى بلدهم، أو حتى النشر في دور نشر تحظر كتبهم، والتعامل معهم، ودور النشر المصرية تتخوف من التعامل معهم، أو الاحتفاء بإصداراتهم القديمة، أحد هؤلاء مُسح اسمه عن عمل درامي مأخوذ عن روايته، ونكلت الشركة المنتجة بحقوقه المادية والأدبية، ولم تكترث بتهديده بمقاضاتها.

المزاج في الشارع: هناك أمل.. أما الحالة.. فهي خوف.. خوف ثقيل يجثم على الأنفاس، يوم الجمعة نزلت إلى الشارع مستطلعا الأحوال، ذهبت لتأدية مهمة في إحدى المكتبات العامة، وعدت، راقبت وجوه الناس، الاكتراث هو الغالب، والحالة تشي بأن لا تظاهر، لكن فجأة، وحينما حانت الساعة العاشرة، انطلقت تظاهرات غير متوقعة، وبرزت تجمعات عديدة في الشارع المصري.. في التحرير.. في الإسكندرية.. في المحلة.. في دمياط.. وفي السويس.. تجمعات كسرت الرهبة والخوف الجاثم على القلوب.. لأنها ببساطة.. قلوب جديدة.. قلوب ربما لم تختبر ما اختبرناه من خوف في 2015.. وقت تظاهرات تيران وصنافير.

نجحت ثورة المقاول في تبديد غبش الخوف الجاثم على الصدور، استطاع محمد علي بفيديوهاته أن يشجع الأجساد والأبدان المتخوفة من الاعتقال وضياع العمر في سنوات سجون احتياطي، وهي أداة كل الأنظمة الاستبدادية. حبس أحدهم لفترات ومدد زمنية متتالية والتجديد له باستمرار لكسره وإحباطه والتنكيل بأسرته معنويا ونفسيا، مع حصار كل مؤسسات المجتمع المدني التي، تقدم دعمها للمعتقلين والمحبوسين احتياطيا.

نجحت ثورة المقاول في تحريك الشباب، الذي لم يشهد حراك يناير منذ ثماني سنوات، أو شهدها وهو لم يزل حديث السن، على الرغم من أنه دعا لاستخدام نفس آلياتها. النزول في الشارع أمام البيوت، أو النزول في مليونية.

جيل يناير المحطم والمحبط، المحاصر إما من جهة عمله التي تدفع له قوته، أو المحاصر أمنيا في بلد تعس غير قادر على مغادرته، آثر الكثير منهم الابتعاد، سألت نفسي هذا السؤال يوم الجمعة: أأنزل للتظاهر وفي رقبتي العيال وأمهم.. ومستقبل على المحك؟

لقد تبددت آمالي نهائيا في أن تخرج مصر من كبوة "الحكم العسكري" الاستبدادي إلى حكم مدني إئتلافي حزبي أو دولة برلمانية ومنصب رئيسها شرفي، وبينما الثورة السودانية تنجح في تكبيل وحصار العسكر، وتجبرهم على تشكيل مجلس رئاسة مدني بأثمان باهظة بالطبع من الأرواح، تبددت كل الأرواح التي سفكت دمائها على كوبري قصر النيل في جمعة الغضب بثورة يناير، وآلت الأمور في النهاية إلى السيسي المستبد المفقر للمصريين.

راقبت بفضول جيلاً جديداً من الشباب المصريين، أنا الأربعيني حبيس خوفي ورهين ظلمته الجاثمة على صدري، وقد نال نظام السيسي مني، وانحصرت كل آمالي في السلامة والمرور بالولاد إلى ضفة أخرى، راقبت بفضول جيلا جديدا ينزل إلى الشارع بأيدي عزلاء، وصدر مكشوف، غير مبال، وغير مسلح، إلا بهتاف في حنجرته.

كل المؤشرات تقول إن التغيير صعب، وإن كل ما حدث يوم الجمعة كان إنذارا رهيبا لسلطان السيسي، ربما ساهمت أجهزته التي أهانها في تمريره، وإن كانت خطتها في النهاية ألا تسمح للأمور بالانفلات أكثر من ذلك، ولكننا كنا نقول الكلام نفسه أيضا ليلة الرابع والعشرين من يناير 2011، وإذا بمبارك الجسور الذي حكم مصر لثلاثة عقود، يذهب بعد ثمانية عشرة يوما من التظاهر.

ولكن مبارك وحده هو الذي ذهب، وبقي نظامه.. والسيسي هو أحد أضلاع نظامه، الذي حذر مرارا وتكرارا من يناير مهددا ومتوعدا، شاخطا وناطرا، فهل تتكرر يناير؟ هل يذهب السيسي وحده هذه المرة؟