محمد أحمد شومان: ثورة 1958 وتفجير قصر الهبري(*)

المدن - ثقافة
الثلاثاء   2019/09/03
قطع طرقات بيروت عام 1958(عن الفايسبوك)
(*) كان الوقت ظهرًا في يومٍ من أيام صيف بيروت القائظ من عام 1958، حين وقف جمْعٌ من سكان شارع حمد عند مدخل بيت آل حمد ينظرون شمالاً في اتجاه قصر خليل الهبري، الواقع في أول الشارع الممتد بين بيت الدنا وتقاطع ما يعرف اليوم بتعاونية صبرا. كان الحدث جللاً بالنسبة إلى سكان الشارع، إذ لن تمضي بضع دقائق حتى يفجِّر رجال المقاومة الشعبية قصر الرجل البيروتي التليد الذي عيَّنه الرئيس كميل شمعون رئيسًا للوزراء مخالفًا المزاج الناصري الذي كان سائدًا أيَّامذاك.

حتى العام 1935، كان شارع حمد، عبارة عن زاروب ضيِّق، يقف على بوابته لجهة شارع البستاني حارسان من العساكر السنغال لحماية داخله، وكان يُطلَقُ على المنطقة اسم "كرم العسكر" لوجود حامية عسكرية أجنبيَّة فيها. أمَّا في الخمسينات فقد كان ينتهي هذا الشارع عند بناية على زاوية تقاطعه مع الشارع الذي يخترق طريق الجديدة من الجامعة العربية والملعب البلدي، نزولاً إلى منتصف شارع صبرا، وصولاً إلى مقابر الفرنسيين والبولونيين حتى حرج بيروت. وقد ابتنى هذه العمارة الحديثة، آنذاك، أحد كبار آل الدنا في محاولة لتطويق الشارع من جهتين، علَّه يتمكَّن من إطلاق اسم عائلته على الشارع، فضلاً عن محاولة تسميته "شارع 31 أيار"، إلا أنَّه لم يُعرف يومًا إلا بشارع حمد. ومن الصراعات التي شهدها هذا الحي تسليط آل الدنا أولادهم ومن حالفهم لمحو اسم "حمد" بشفرات الحلاقة عن "البلاكات" الزرقاء المعلَّقة على أعمدة الكهرباء، وقيام أولاد المعسكر الآخر بإعادة كتابة ما مُحِي.. تلك كانت صراعات النفوذ، وإن اتَّسمت بالبراءة، بل بالسذاجة، مقارنة بما حدث لاحقًا عند اندلاع حرب عام 1975..

ومن الأعمال التي هدفت إلى تثبيت النفوذ في الحي، أنه كانت لكل عائلة من العائلتين المتنافستين، "أّبُّولة" (أي كومة كبيرة من الأغصان وأعواد الملوخية اليابسة وكل ما تقع عليه الأيدي ممَّا يقبل الاحتراق من نبات) تُقام استعدادًا لحرقها يوم المولد النبوي مع ما كانت تحتويه من ألعاب نارية.. وهذه كانت من عادات مناطق بيروت الجميلة التي عفَّت عنها مع تكاثر عمرانها واختفاء خلاءاتها وأراضيها البور.. أيَّامذاك، كان ثمَّة أرض رملية رحبة تقع وراء بيت حمد، فكان أتباع الدنا يعتلون أعلى بناية لديهم ويعمدون إلى قذف "أبُّولة" آل حمد بخيشة مشتعلة مربوطة إلى حجر بالمقلاع، محاولين إشعالها قبل أن يهلَّ العيد.

وكان من عادات أهل بيروت خلط الرماد مع الكاز في أكوام صغيرة توزَّع على الشرفات، لتُشعَلَ يوم مولد النبي، فترى ظلال لهب النار في الأحياء تتراقص أطراف الليل كأنَّه ألسنة جانّ. وكان هذا المنظر يثير لدي سعادة غامرة يخالطها خوف ودهشة ما. وفي يوم العيد يتجمَّع سكان الحي حول "الأبُّولة" المشتعلة يتسامرون ويروح الأولاد يطلقون ألعابهم النارية وارد "قيصر عامر"! أسهم وطرابيل صغيرة ومتوسطة وكبيرة (كطربيل الديك) تُرِسَت في حصائر، فضلاً عن كرات تُفرقَعُ بين الأرجل. كان موسم المولد النبوي الباهر يمتدُّ أيامًا قبل أن يتأوَّج بإشعال "الأبُّولة".

ومن العادات التي كانت شائعة وقتذاك أيضًا عادة تطيير الطائرات الورقية الكبيرة في الموسم نفسه، فكانت العائلتان تسلِّحانها بالأمواس والشفرات حتى إذا تشابكت إحداها مع الأخرى أسقطتها وسقطت معها!

أثناء "الإضراب" –وهو التسمية التي يطلقها كبار السن البيارتة على أحداث "ثورة 1958- أصاب الناس الكساد والخوف فالتزموا بيوتهم وأحياءهم، إلا من كان مجبرًا على مباشرة عمله من الموظفين وأصحاب المهن، فكنت تراهم يتجمَّعون حلقات ويمضون أوقاتهم في لعب الورق وطاولة الزهر والدومينو والضاما، ويتسقطُّون أخبار المظاهرة والمعارضة. والأولى قُصِدَ بها من ظاهر حكم شمعون، فيما الثانية عنت المقاومة الشعبية التي عارضته. وفي بعض الأحيان كنَّا نشهد في الحي قطع الطريق بإطارات مشتعلة فيتعذَّر عبورها على السيارات قليلة العدد أصلاً، وكان يتصدَّى لهذا العمل فتيان الشارع من آل البرجاوي وصقر والحافي والحوري والقنواتي، ولا أعلم الآن ممَّن كانوا يتلقَّون الأوامر، غير أنَّ هذا لم يحدث سوى بضع مرات على ما أذكر..

وكان في الشارع دكانان وملحمة وفرن صغير، فقط لا غير.. أحد الدكانين كان لشقيقين إذا أردنا الإشارة إلى الشراء من لدنه قلنا من عند "حيدر وإبراهيم" معًا. كان حيدر بشوشًا، أما إبراهيم فقد كان على الدوام متجهِّمًا عبوسًا. والدكان الثاني الملاصق للأول كان للحاج الحافي، كبير آلِهِ والحلونجي الذي كان يستعين به "حلو الصمدي"، أشهر محال الحلويات في بيروت آنذاك، لخبرته في صناعة البقلاوة وخبزها، وذلك خلال مواسم الأعياد والمناسبات الدينية..

وقد تجلَّت ذروة الإضراب بتفجير قصر الهبري مقابل بيت الدنا، وأعقبه النهب والسلب فلم يترك الناس فيه غرضًا يخبر عن غرض، وتحوَّل مع الأيام إلى ركام مهجور أثار لدينا، نحن الأولاد، الرهبة والخوف لمجرد المرور بجانبه. وقد ظلَّ كذلك سنين، إلى أن شيدت مكانه بناية فخمة عديدة الطبقات، فاختفت ذكرى القصر، كأنه لم يكن قائمًا يومًا، وتلاشت معه ذكريات الطفولة البعيدة.

(*) مدونة كتبها الكاتب والمترجم محمد أحمد شومان في صفحته الفايسبوكية.