"نور حياتي": كيسي أفليك يعتذر للنساء

محمد صبحي
الثلاثاء   2019/09/10
كيف تنشئ ابنة في هذا العالم؟
تسع سنوات مرّت بين "ما زلتُ هنا" (2010) و"نور حياتي"(*) (2019). كَونٌ سينمائي كامل يفصل الفيلمين. من "موكيومنتري" (توليفة الوثائقي الساخر)، إلى دراما أبوكاليبتكية عن علاقة أب وابنته. نوعان فيلميان متقابلان، كما حساسياتهما، ولغتهما السينمائية. كتب كيسي أفليك الفيلمين، وأخرجهما، وهذه المرة استعاض عن يواكين فينيكس وتشارك البطولة مع آنّا بنوفسكي ذات الـ13 عاماً، ليقدّم اعتذاره الخاص عن ماضيه الشائن بحق النساء، كما للإشادة المجازية بالحالة الأنثوية في العموم.


بدأ أفليك كتابة فيلمه الثاني، كمخرج، قبل عقدٍ من الزمن، عندما كان ولداه (من الممثلة سامر فينيكس، شقيقة يواكين فينيكس) أصغر سناً، واعتاد في كل ليلة أن يخترع لهما حكاية قبل النوم. واحدة من تلك القصص يبدأ بها الفيلم رحلته: أب (أفليك) وابنته (بنوفسكي)، يستلقيان ليلاً، داخل خيمة، بينما يخبرها حدوتة ما قبل النوم. الابنة على أعتاب المراهقة، لكنها لا تزال فتاة صغيرة يسعدها سماع حكاية مسلّية. يحكي الأب قصة سفينة نوح، مخترعاً إياها على طول طريق الحكي، بالارتجال والمرح والارتباك، دافعاً ابنته إلى التفاعل والضحك مع جوانب القصة التي تشعر بحميميتها وألفتها. مشهد يدوم أكثر من 10 دقائق، شخصي للغاية، يستطيع المشاهد أن يتخيّله مستعاداً من إحدى ليالي أفليك نفسه مع طفليه الحقيقيين.

لكن في تلك اللحظات الافتتاحية، أهم ما يكشفه هذا المشهد، هو القصة التي يرويها الأب وكيف يرويها. إذ يبدأ بالقول إنها ستكون قصة عن أنثى ثعلب، صلبة ومغامرة، لكن بتطوّر الحكي (الارتجالي)، يتسلّل الثعلب (زوج الأنثى) ليلعب دور البطولة وينقذ السفينة في النهاية. تعترض الابنة على هذا التحوّل: "قلت إن الحكاية ستكون عن فتاة، فلماذا تستمر في الحديث عن الرجل؟". سؤال لن تتضح معالم إجابته كاملةً إلا مع لقطة الفيلم الأخيرة، حين تتبدّل الأدوار بين الأب وابنته.


في صباح اليوم التالي، نعرف القليل عنهما: الأب وابنته وحدهما في الغابة، ويبدو أنهما كانا هكذا منذ فترة طويلة. تتظاهر البنت أمام الغرباء بأنها طفلة. يتخيّل الفيلم عالماً غارقاً في الهمجية يشبه إلى حد كبير الفانتازيا الواقعية لكورماك مكارثي في "الطريق". كما في الرواية الشهيرة، يتعيّن على الأب والابنة (الابن في حالة رواية مكارثي) مواجهة عالم بلا قواعد تنهشه كارثة غريبة يمكن أن تكون، في الحقيقة، أياً من نهايات العالم التي تهددنا حالياً (البيئة أو الهجرة أو ترامب). يندفع الأب وابنته في رحلة مستمرة للمضي قدماً، وسط عالم مقفر بعد نهاية العالم، حيث قضى فيروس غامض قبل سنوات على جميع الإناث. وهنا، يقترب الفيلم كثيراً من حكاية فيلم أبوكاليبتكي آخر هو "أطفال الرجال" (2006) للمخرج ألفونسو كوارون، بعالمه المجدب الذي تسكنه كائنات عنيفة في الأساس، كلهم رجال، في أنقى صورة لحالة النظام الذكوري المتوحّد بلا أي عائق يقيّد أو يحدّ من غبائه وسخطه. لذلك، يوفّر الأب لابنته حماية فائقة، ولا يفوّت فرصة لتعليمها مبادئ النجاة، وكل ما قد تحتاجه حين يدركهما خطر الرجال الهائمين بحثاً عن فريسة من جنسٍ لم يعد موجوداً.

صحيح أن "نور حياتي"، من الناحية العملية، هو الفيلم الثاني لكيسي أفليك، كمخرج وكاتب سيناريو، لكنه في الحقيقة أول عمل روائي له، ويلائمه ذلك التوصيف أكثر لتمتعّه بالعديد من الخصائص المميزة للأعمال الأولى وللممثلين الذين اختاروا الوقوف وراء الكاميرا. فالمرجعان المذكوران سابقاً يظهر أثرهما جلياً في صور الفيلم وتسلسلاته، يُضاف إليهما تأثر أفليك في تسيير فيلمه بإيقاع يأخذ الكثير من أسلوب الأميركية كيلي ريشاردت المتمهّل، كما في استخدامه مشاهد الفلاش باك في تضفير حكايته بالذكريات الخافتة والمهموسة، بطريقة تذكّر كثيراً بفيلم "مانشستر على البحر" (2016) لكينيث لونيغران. والفيلم الأخير مثير للاهتمام على أكثر من مستوى، خصوصاً مع لعب كيسي أفليك نفسه لدوره الرئيسي، فضلاً عن تشابه الفيلمين في تناولهما موضوعات كالحداد والفقد والعائلة.

يقول أفليك إنه، من حيث المبدأ، أراد تركيز قصة الفيلم على العلاقة بين أب وولديه (مثله). لكن ابناه رفضا الظهور في فيلمه، فتغيّر عدد الأبناء وجنسهما، ليرسو في النهاية على الموهبة الجديدة المتمثلة في الكنَدية آنّا بنوفسكي. رغم ذلك، من السهل لأي عارف بحياة كيسي أفليك ملاحظة ذاتية الفيلم واشتماله على مشاهد من حياته كأبّ، يبحث عن إجابات مستمرة للمآزق والمخاوف المرتبطة بتنشئة طفل في هذا العالم، مثلما هو ذاتي في اعتباره بمثابة اعتذار علني بعد كل الجدل المثار حول الاتفاق الذي توصّل إليه مع ممثلتين شاركتا في فيلمه السابق ونددتا به لـ"سوء المعاملة وبيئة العمل غير المهنية". في استعارته من آخرين، واختيار تركيزه على قصة بسيطة تعتمد على تطوير الشخصيات والديناميات العاطفية، أكثر من التدرج الدرامي الكلاسيكي؛ يقدّم أفليك هذا البورتريه الجميل والعاطفي والحسّاس لمحبة غامرة بين أب وابنته، مليء بلحظات العطاء والتواطؤ والخطر والتوتر (إما بسبب هجوم رجال مجهولين، أو لاضطرار الأب لشرح ما هو الحيض والجنس).

ما يميّز "نور حياتي"، ويبعده عن "أطفال الرجال" وغيره من أفلام هوليوودية تؤطر حكاياتها بمصائر كبرى وكوارث عالمية؛ مساحته السردية والعاطفية الصغيرة التي يغطّيها. يحرّك أفليك فيلمه على مستوى مينيمالي وحميمي: عينان باحثتان ومحبّتان، عينان خائفتان، عينان تهربان. كل جهده الإخراجي مكرّسٌ لالتقاط صور ما قبل خراب العالم، اندفاعة الكارثة التالية، التقاط شبح الخراب الداخلي. هذا النهج يستحق التقدير، مثلما قدرة المخرج على توتير كل عاطفة وانفعال مهما كان صغيراً وخافتاً. بقول ذلك، من الضروري الإشادة أيضاً بالكيمياء المتوافقة بين أفليك وبنوفسكي، في تجسيد دقيق لدينامكية العلاقة بين أب يراعي ابنته في بيئة مرعبة ويواجه في الوقت ذاته هشاشته الداخلية، وابنة مراهقة بروح قلقة ومغامرة تستكشف عالماً خطيراً بالتساؤل وتحدّي قواعد حاميها الوحيد.

إنها "مغامرة حبّ"، كما اعتادت أن تقول الأم الغائبة، في عالم ما قبل الكارثة.

(*) يُعرض حالياً في الصالات اللبنانية.