الوعد بالرد "الأكيد"

وضاح شرارة
الخميس   2019/08/29
مهرجان حزب الله في البقاع (عزيز طاهر)
أنجز "الشيخ" حسن نصرالله، خطيب فيلق الحرس الثوري الأول في لبنان، ما ينبغي العودة إلى تاريخ السينما العالمية للوقوع على إنجاز يُشبهه. فهو حين يتكلم، أي يخطب جمهوره و"العالم" من وراء جمهوره الموقوف عليه، يُضطر جمهوره، على طبقاته ومراتبه، من الولد الكشاف إلى الوزير والعميد المهيبين، إلى النظر إليه وإثباته من تحت، حيث يجلس الجمهور، إلى فوق، حيث الشاشة التلفزيونية المتصدرة التي يُشرف منها الخطيب على من تنزل عليهم خطبته، المُبينة على الدوام، فتحاً وحقيقة. ومن هذا شأنه أو يحسب أن هذا شأنه، مكاناً ومكانة، يبدو صورة بارزة، فريدة وعلى حدة من جوار متطفل قد يصرف النظر عنه، ويقارنه بأشياء هذا الجوار الأخرى. فيحيله "شيئاً بين أشياء أُخَر في عالم مشترك"، على ما ذهب إليه أحد فلاسفتهم في تعريف الوجدان "الظاهر".

أما السينما التي يرد إليه الخطيب الحرسي فهي شريط "الديكتاتور" الذي صنعه شارلي شابلن في رجل ليس بينه وبين الخطيب ما يتقاسمانه ويشتركان فيه، هو أدولف هتلر، "الطيب الذكر" في معرض الكلام على اليهود وإسرائيل والاستيلاء عنوة على فلسطين- على قول الشيخ عبدالله العلايلي في خطبة بسينما روكسي ألقاها في عيد الكتائب اللبنانية السنوي في خريف 1953 أو 1954، وسمعتها بأذنيّ ورأيت الرجل في سترته الطويلة المفتوحة وعمامته حول طربوشه العريض بأم العين. وقَرَن الخطيب الفرد، في إطار يملأه وحده، فرادة صورته وحِدَتِها بقصر انتباه جمهوره وسامعيه من أصحاب الأعناق اللينة على معنى واحد، يريده ويوجبه فلا يشاركه في إملائه وإيجابه أحد. 

فغداة الخطبة في الطائرتين الموجهتين والمسيرتين اللتين ضربتا دار العلاقات الاعلامية في المنظمة الحرسية، ليل 24-25 آب (أغسطس) برأس العين البقاعية، استلقى معظم الصحافة البلدية على الظهر، ورفع الرأس المشرئبة إلى حيث يستوي (معنوياً ومكانياً) الخطيب ويقول. وفهم معظم الصحافة المعنى الفرد الذي يريد القائل أن يفهم عنه، بمعزل عن المعاني الأخرى التي قد تلقي الشك أو الاشتباه على المعنى العسكري والبطولي، وصَدّره في مقالاته. ففي مقالٍ كتبه أحد أصداء "القنصل" (الروماني) الاستخباري السوري غازي كنعان، في صحيفة كشكولية، غداة الخطبة، وسع القارئ إحصاء تكرار جزء الجملة "تأكيد أمين عام حزب الله حسن نصر الله أنه سيرد على عملية اسرائيل" في سياقة الألف كلمة التي يتألف المقال منها 9 مرات غير منقوصة، إما بالحرف أو مع بعض المرادفات.

ويسند الصحافي "رأيه" الآلي هذا إلى مسوغات مفهومة بنفسها، فلا يتكلف عناء شرحها أو إسنادها، مثل "احترام قواعد الاشتباك"، وقرار مجلس الأمن 1701 (2006)، و"إعادة الاعتبار إلى قوة الردع"، و"معادلة الردع". فيظن القارئ في الكاتب اعتناقاً لرأي الخطيب، وتصديقاً به، وقبولاً تاماً بمقدماته ونتائجه. فيتلألأ "التزام المقاومة بالرد المشروع على اسرائيل" أقنوماً إيمانياً لا يُسأل قائله عن علله، ولا يصل بينه وبين الموضوعات الأخرى التي يتصدرها الأقنوم. وهذا في معرض "تحليل إخباري" أو ما يشبهه. وينتشي بعض مراسلي المحطات التلفزيونية الفضائية وهم يزفون بشرى الرد الآتي لا محالة إلى المذيعات، وتنتفخ عروق أعناقهم، ويتطاير الزبد من أفواههم غير المفضوضة، بحمده. فالحرب "عادة لنا" و"تزيد وعينا".

والفحص السريع عن مقدمات الخطبة الآيلة إلى جوهرة تاجها، "التزام...."، يظهر تعلق الجوهرة القوي بعقد جواهر كثيرة قد لا تسلم كلها، على القدر الواحد من البداهة، من المسألة (وليس المساءلة، أبيت اللعن!). فالخطيب ينسب إلى نفسه وحده (وهو جماعتُه وشعبه وأمته... جميعاً) "أمننا وأماننا... وأن يكون بلدنا واحة أمن وسلام...". فهذه، وجزء ضئيل منها حقيقة، ما صح منها يعود أولاً إلى موازين العلاقات الدولية ومعاييرها، على عواهنها الكثيرة، وإلى تراث أهلي داخلي لا يحول دون انتهاكه على الدوام حائلُ، ولكنه قد يستوي على بعض الاعتدال في ظروف مؤاتية. وقد يعود إلى اختبار اللبنانيين حروباً ملبننة كثيرة وطويلة خلصوا منها إلى التسليم بتسلط الفيلق الحرسي على بعض وجوه معاشهم وعمرانهم الخَربِ لقاء سلم داخلي كالصقيع برداً ونفوراً. وينبغي الإقرار، على مضض، أن الحرسيين المحليين لا يغالون في المغامرة، ويتقيدون بعض الشيء بموجبات حصر الخسائر، ويرتدعون شأن عدوهم، ويقتصدون إلا في الكلام.

وينقلب الخطيب من مديح الأمن والأمان والحصانة والمناعة والعزة والكرامة إلى التخويف من أذى "العودة إلى الانقسامات القديمة". والأرجح أن هذه الانقسامات ليست "نوحية" (نسبة إلى نبي الطوفان والسفينة)، على قول كاتب سوري راحل، ولا قديمة قدم نوح. وكانت للخطيب كلمة فاصلة في النفخ، بالأمس القريب جداً، في "الانقسامات" العتيدة والمزمنة. فكيف استقام أمن وأمان... في وقت واحد، مع تأريث الثارات والعصبيات؟ وإحدى خطب الخطيب القريبة، في سلسلة الاحتفالات الطويلة، حملت قبول شيخ الفيلق التماس العدو الصهيوني وقف النار في آب 2006 على سياسة الحكومة اللبنانية وضعفها وغدرها ومواطأتها العدو وأميركا من ورائه، على ما أشاعت حملة دعائية كتلك التي لا يُشق غبار للفرقة الخمينية في تنظيم أمثالها. وعلى جاري عادة هذه الفرقة في الجدل، يترك البديل عن الاتفاق مع العدو مُعلقاً: فإذا لم تنتهِ المعركة إلى وقف نار أو هدنة فما الاحتمال الآخر؟ دوام الحرب (لا) إلى أجل معلوم؟ إلى الفناء المتبادل، على قول القصص الملحمي الشعبي وقول بعض أعلام الفتوى بقم ومشهد؟

ويكرر الخطيب قسمة عزيزة على قلبه، وتقوم مقام الركن من خطابه ومقالاته، بين "المقاومة"، أي الحرب المقيمة في الدولة والمجتمع ("مجتمع الحرب") وخارجه (بين الدول)، وبين من "يتحدثون إلى الاميركيين"، "المنزعجين" من صلابة الحرسيين. وتفصل هاوية لا قرار لها الأولين عن الآخرين. ولا ينفك الرجل يعمق الهاوية هذه: فالأولون، "نحن"، "حاضرون ان نجوع، لكن أن نبقى أعزاء نبيع بيوتنا ونقاتل" (والحق أن مشهد حيي حارة حريك وبير العبد في 14 آب 2006، ووقوف "المواطنين" في صف منضبط ينتظرون دورهم قبضَ التعويض النقدي بالدولار عن بيوتهم المهدمة ليس مشهد "بيع" على وجه الدقة). والآخرون "ليسوا بشيء"، على قول أهل الحديث فيمن يجرحون. وهذا الترتيب "الهيراركي" جزء من الانقسامات المزمنة التي قادت، على ما يفهم من مقالات الرجل، إلى لجم الحرب قبل دمار أرمجدون وملء الأرض الجائرة عدلاً. فكيف تخاض حرب، ولو على وجه "التكتيك" (واللفظة من مصطلح الخطيب)، حين يرمي التنازع على الحق في القرار الشقاق الأهلي في "الشعب" الذي يخوضها؟



وتبعث المسألة هذه مسألة أخرى متصلة. فالخطيب (وفرقته معه) يزعم أن الجزء ("شعب المقاومة"، وجمهورها، و"الثنائي الشيعي"، في مصطلح صحافي مداهن) هو الكل. ويغلب هذا الزعم على رواية وقائع سياسية وعسكرية قريبة. فيصوِّر "الشيخ" أن حربه والكيان الصهيوني قبل 13 عاماً هي حرب "لبنانية" حين أنها حرب حزبه الإرادية. ويُشكل إعمالُ السياسة الإيرانية الخمينية الحرسية قضية فلسطين، أصولاً وفروعاً، في إنشاء هيكل "إمبريالي" بين آسيا الوسطى وبين المتوسط. ولا تستقيم هذه السياسة إلا من طريق ازدواج الدول وشعوبها ومجتمعاتها شطرين أهليين متحاربين.

وتعريض الخطيب بالعراق، ساحة سياسة "التشطير" (على قول يمني) الإيرانية وامتحانها العربي الأبرز والأخطر اليوم، وزعمه النجاة من "السيناريو" (مع التكتيك...!) أو "المسار" "من هذا النوع"، يريد المهين- تمثيل جلي على رسوم السياسة الخمينية الامبريالية ومنازعها. فتحالف "الفتح" النيابي العراقي، وهو إطار فصائل الحشد الشيعي، يعتبر "الاعتداءات الصهيونية"، واغتيال كاظم علي محسن، رأس الدعم اللوجيستي في اللواء 45، "إعلان حرب على العراق". فـ"الحشد شأن المقاومة الاسلامية" المسلحة وحزبها، هو "العراق"، عنوةً وقسراً. فيخالف وصفة الاعتداءات تحفظ وزارة الخارجية العراقية عن التعيين، وبيان الرئاسات الثلاث (العراقية هذه المرة) الذي أغفل التعيين. وإذا ماشى مقتدى الصدر "تجهيل" المصدرين المأذونين، نسبت أجهزة الدعاية والتحريض الحرسية الأمر إلى "مزاجية" السياسي العراقي. وساوت بينه وبين "أدبيات 14 آذار". فهو يطالب بـ"حماية الحدود العراقية من جميع الأطراف، وبالخصوص حدوده مع سوريا، وانسحاب كافة الفصائل من سوريا الحبيبة". وهذه كبيرة الكبائر. وأنكر مثل هذه الكبيرة بعضُ أعيان الخامنئية الحاكمة سعيداً على حسن روحاني ووزير خارجيته.

فـ"الحق الطبيعي في مقاومة الاحتلال بكل الوسائل"- وفي صدارتها تأريث الشقاق الأهلي وتجديد عوامله، ولبننة السياسات الإقليمية العُظامية، وتوحيد الكل الوطني في الجزء العصبي والمذهبي، وتقويض العلاقات والأبنية السياسية وإدارتها في حلقة مفرغة، وتحجير الدولة ووظائفها على سلطة متأمرة وغنائم متقاسمة...- على النحو الذي تزاول عليه المقاومات" و"الحشود" و"الاتحادات" لا يتستر على ملازمته ديكتاتورية ضيقة، عقيمة ونرجسية. والحدس في "الدمار العظيم" الذي نقيم في لجته إيذاناً مهدوياً بنهاية الليل المتمطي، بحسب "رؤيا" صاحب فيلق القدس وأميره، "فعل إيمان"، على قول مسيحي قديم ومتجدد.