أعشق اسمي

فرح الدهني
الأربعاء   2019/07/03
"فرحة الحياة" بيكاسو
من جميل المصادفات قراءتي مقالاً عن الأسماء، كتبه الصحافي محمد حجيري بسلاسته المعتادة، بينما كنت أسترجع في رأسي موقفاً ليس ببعيد من الفكرة عينها، حصل معي منذ يومين في حفلة حضرتُها.

... كنتُ مسمّرة أمام "البوفيه" حائرة في ما أملأ به طبقي، فإذا بصبية ممشوقة تقترب مني، تختال بفستان أشبه بنفق ورديّ يعبره النظر بادئاً بفتحة في الصدر، ثم يضيع في تلابيب شعرها المظلم، إلى أن يبصر شعاع النور في فتحة الظهر.

استهلَّت حوارَها معي بسؤال العارف: إذاً إنتِ فرح! فأجابها ثغري بابتسامة نحيفة. تابعَتْ باندفاع: هل تعلمين أن اسمي فرح كاِسمِك؟ فرددتُ وأنا أتلمّظ بقايا التبولة في فمي: توقّعتُ ذلك.

كيف توقّعتِ؟... قالتْ
شخصيّتُكِ: أجبتُها.

غير أنّ الصبية لم تفطن لما يدور بيننا من صراع بين بطنٍ خاوية، وبطن ممتلئة، قرب طاولة البوفيه، لذا تابعتْ كلامها عازمةً على لكمي: أنا أكره اسمي! 
حينها سقط قرص الكبة من يدي على الأثر عائداً إلى أقرانه في الطبق. سألتُها باستهجان: لماذا؟

فردّت: لأنه اسمٌ يجبركِ على أن تكوني فرحة! ...أنّى لنا الفرح؟!  
في تلك الأثناء، حلّقت في الأجواء نغماتٌ موسيقية كفوريّة، فشرع جسدي يدمدمها باهتزازات خجولة، ثم ألقيْتُ عليها تعليقي كشاعر مغمور: أنا أعشق اسمي، لأن الفرح موجود، وإن كان خبيئاً في آخر نقطة من أعماقي... أنا أعشق اسمي!  
وكيف نصل إلى الفرح يا فرح؟... سألَتْ 
اضحكي... المشاعر بحاجة إلى هواء لتعيش... بحاجة إلى فم لتخرج: أجبتُها، وأنا أنفصل عنها لأنتقل إلى منصّة الرقص، متجاهلةً عواء بطني.

ربما لا تقتصر حكايتي مع اسمي على واقعة "البوفيه"، وإنما تتعداها إلى أحد الأسرّة يوم مولدي، حيث كنت ألثم من حلمة والدتي قشوة حليبها في انتظار النزر اليسير، فإذا بجدتي لأبي تسألها: ماذا ستسمّينها؟
أجابتْ والدتي والحبور يُغشي ناظريْها: "كريستين". فتدفّق على الأثر حليبها في فمي بعد طول انتظار، شهيّاً دسماً دافئاً مفعماً بالحنين. إلا أنّ جدتي، وقد نفخ الكِبْرُ جسدها، ابتلعتْ الاسم وتقيّأته على الملأ قائلةً: "اسم مسيحي!... مستحيل!... منسميها زينب!"

آنئذٍ اكفهرّتْ سحنةُ والدتي، وبالتالي بدأ منسوب الحليب يشحّ في فمي، فردّتْ بصوتٍ متداعٍ ونفسٍ مهيضة: "كمان زينب اسم متوالي... مش حلو!"

فضحك جدي لأبي ساخراً: "الأسماء ببلاش، لو بمصاري كانت الناس سمّت خرا"...

كاد الإغماء يخطف والدتي من نير الفاشيَّيْن المحيطيْن بسريرها، لولا تدخُّل والدي المباغت، بعد ليلة اعتقال عصيبة، بنبرة بريئة، كبراءة أصحاب الفنادق الذين يُؤوون في حجراتهم لصاً ذائع الصيت من دون علم منهم: "اتركوها يا جماعة تختار اللي بتحبّو!"

حينها انفرجت أسارير والدتي. أخيراً أتت رمية الزهر لصالحها!... فجرى الحليب إلى فمي من جديد بدفق ودفء مهيبيْن، إلا أنه سرعان ما تلبّد وجه أمي حيرةً وخجلاً، كذلك الذي يخجل عندما تكون رمية الزهر لصالحه، فيسأل نفسه: هل أنا غشاش؟!

نفد صبر جدتي. سماءٌ مكفهرّة إلى هذا الحد لن تصحوَ من دون عاصفة! فما كان لها سوى أن تضرب بيدٍ من حديد لتجدع أنوف الجميع قائلةً: "لا تنسَ أنه طالما أنعم الله علينا بالحياة، فسنظلّ نحن الأمّهات. ومهما كنتم ثوريّين، فإنّ لنا الحق في خلع بناطيلكم وتأديبكم بالعصا لأول بادرة عصيان لنا، نحن أمّهاتكم!... سنسميها فرح... الفرح لكل الناس!". 
ساد صمتٌ مديدٌ في الغرفة. تأمّلَتْ والدتي عينيّ الناعستيْن برفق... ابتسمَتْ... ارتأَتْ أن تمنحني الفرح اسماً... ثم رحلَتْ...