أدب "التحفيل".. كاريكاتير العصر

شريف الشافعي
الثلاثاء   2019/07/23
من التحفيل الرياضي: خروج "الزمالك" من البطولة العربية بهزيمة أمام "الاتحاد"
بقدر ما تنحسر فضاءات الحرية ويتم التضييق على منافذ التعبير الإبداعية ومنابر الأفكار والكلمات ومنابت الصور والتصورات، المباشرة وغير المباشرة، بقدر ما تنتعش فنون السخرية والتندّر، امتصاصًا للغضب المجتمعي الكامن، وتنفيسًا للاحتقان المتأجج في الصدور، وكسرًا للحصار السلطوي الخانق، ومحاولات فرض الصمت على الأغلبية.

منذ انفجار تسونامي النكات الشعبية اللاذعة، خصوصًا السياسية، في العهد الناصري، وبلوغ فنون الكاريكاتير وعرائس الماريونيت والأراجوز والرسوم والدمى المتحركة ذروة التألق والنضج في النصف الثاني من القرن الماضي، وصولًا إلى أحدث ألوان الإبداعات الرقمية والإلكترونية وأدبيات السوشيال ميديا في يومنا الحالي، والسخرية تمارس دورها الواعي باقتدار في تعرية الواقع المصري الهش وإبراز سلبياته ونقائصه وكشف أزماته ومشكلاته، عبر المفارقة والانتقاد والاستهزاء، والمزج بين الجد والهزل، والبكاء والضحك، والحقيقي والمتخيل.

لربما تتوسل السخرية أحيانًا في مواقف وظروف وملابسات معينة، أبجديات التنمّر والتجريح والإيذاء المجازي والمقصود عبر أساليبها ووسائطها المتنوعة، لا سيما في أعقاب إخفاقات كبرى وانتكاسات عنيفة وسياسات فاشلة ومواقف خاطئة لأفراد ومؤسسات وإدارات وحكومات، وهنا قد تتلاشى الحواجز بين الفكاهة والهجاء، على أن قيمة الفن تبقى معلقة بجمالياته المجردة الصافية، وعناصره الخالصة، وبأن يكون هدفه الغائي هو التقويم والتصويب والبناء، وليس الهدم وبث الإحباط والسوداوية.

من أبرز خصائص السخرية، المصارحة والمكاشفة والجرأة في اقتحام الآخر وفضح الذات والاستئساد في مواجهة القوى الخارجية الباطشة والسعي إلى النيل المعنوي من هيبتها وعنفوانها. وتتحرى السخرية المبالغة، والتضخيم والتقزيم، والتكثيف في إلقاء الضوء على جوانب وزوايا بعينها وإغفال أخرى، لإحداث المفاجأة المطلوبة.

قد يكون فن الكاريكاتير هو الأكثر وضوحًا في استثمار جذور السخرية والفكاهة بثيماتها الموروثة في الفنون والآداب، وتطويعها بصريًّا ليكون في طليعة الفنون المرحة الهازئة، والشكل الإبداعي الأوسع انتشارًا عبر وسائل الإعلام النمطية والمستجدة، والأكثر التصاقًا بالجماهير، ومن ثم فقد أطلق عليه فن الغوص تحت الجلد وقراءة الأعماق الإنسانية واصطياد الجوهر في الأحداث والظواهر وتحليل حركة المجتمع بما يفوق مقدرة الباحثين وكاتبي المقالات والتقارير الإعلامية، لما فيه من إدهاش وتشويق وجاذبية وتجاوز للمألوف والمتوقع من خلال تحريف الملامح والقياسات الطبيعية.

وقد استلب الكاريكاتير قلوب المصريين كما لم يفعل فن بصري آخر، فهم شعب النكات والقفشات وخفة الظل الفطرية، وانخرط أحفاد الإله الفرعوني "بس" (إله البهجة والمرح والملذات) في التندر على أحوالهم وانتقاد السلطة والمناخ السياسي والظروف الاجتماعية والاقتصادية المحيطة على غرار أجدادهم القدماء، الذين يعيد الباحثون إليهم أصول فنون السخرية والفكاهة عامة، حيث الرسوم والنقوش والرموز المدوّنة على جدران المعابد، بما فيها من مهارة ومكر وقدرة على استغلال هوامش الحرية المتاحة بدون التعرض للملاحقة والتنكيل.
ويمكن الادعاء بأن ما يسمى حاليًا "التحفيل" عبر وسائل التواصل الاجتماعي هو الأقرب إلى أن يكون كاريكاتير هذا العصر الرقمي التقني بامتياز، سواء جرى التعبير الساخر بالكلمات المنفردة أو المصحوبة بالكوميكس، إذ يجسّد هذا اللون الإبداعي الوجه الصادم الصارم الأكثر عنفًا بين وجوه السخرية بطبيعتها الأساسية التي لم تتغير مع مرور السنوات واستحداث أنساق أدبية وفنية مبتكرة في عصر الثورة المعلوماتية والتداول الرقمي والشبكة العنكبوتية.

تحت مظلة السخرية العامة، التي لها شأن كبير في المشهد المصري ولدى الشخصية المصرية عبر العصور كطريقة تعبيرية هي الأكثر تأثيرًا وإقناعًا وفق دراسات علوم الخطاب، يصير بالإمكان التعاطي مع "التحفيل" كنمط أدبي مستقل، يشترك مع الأنماط الإلكترونية التفاعلية في سمات، وينفرد بسمات أخرى، ويهدف بطبيعة الحال كفن ساخر إلى الانتقاد والإضحاك وإثارة الغضب والاشمئزاز والنفور وربما الثورة وتكوين رأي عام مضاد بسبب أمر مسيء أو مزعج أو محبط أو شخص أو كيان ما، يصير هو "محور الحفلة الهزلية"، التي قد يكون فيها ما فيها من "التنمر" اللفظي والعاطفي، بمعنى تقنين الإحراج وتزيين الإيذاء والإذلال ومنهجة الإساءة وبلورتها فنيًّا وتحفيز الآخرين على المشاركة في حفلة السخرية الجماعية وتعزيزها وتوسعة نطاقها.

وتعود لفظة "التحفيل" إلى الاحتفال بمعنى الاجتماع والاحتشاد، ومن ثم فإن أدب التحفيل هو أدب قصدي بنيّة مسبقة، وليس أدبًا عفويًّا، فالتيار النقدي العام يتكون من التقاء مجموعة كبيرة من البشر على موقف ما يتخذه فرد أو أكثر أولًا بصياغة فنية رشيقة، ثم يتدافع الآخرون تباعًا لدعمه ونصرته في وقت لاحق من خلال الأفكار والعبارات المشابهة، أو التعليقات التفاعلية الملائمة، في الإطار التهكمي ذاته.

وقد يأتي "التحفيل" في سياقات تنافسية صريحة، كما في الميدان الرياضي مثلًا، حيث تحفّل جماهير الفريق الفائز على جماهير الفريق المهزوم، وهنا يتسطح فن السخرية المجتمعي الهادف ليصير مجرد مجموعة من الإهانات والشتائم والمكايدات المتبادلة في قوالب فكاهية تكون عادة مبتذلة مثيرة للاحتقان ومحرضة على العنف، ولا عمق من ورائها أبعد من الاستهزاء الفج، بعكس فنون الإضحاك والسخرية والتهكم على الذات والآخرين في سياق موضوعي، وهي الفنون التي يُفترض أنها تجعل الإنسان أكثر سعادة وإيجابية واجتماعية وَرُقِيًّا روحيًّا، وَتُحَسِّن حالته المزاجية.

يُمثّل "التحفيل"، على افتراض أنه نسق فني مستقل، ثيمة من ثيمات "أدب التواصل الاجتماعي"، الذي هو بدوره أحدث عناوين الأدب الإلكتروني، ومن الخصائص العامة للتحفيل، شأن أنساق الأدب الإلكتروني الأخرى: التكثيف، والاختزال، والتفاعلية، وإشراك المتابعين في التقييم والتعليق وأحيانًا إتاحة التدخل الذاتي في النص الأصلي بالإضافة أو التعديل.

وعلى عكس إبداعات السوشيال ميديا الرائجة، كالهايكو العربي وقصائد التماهي مع الطبيعة بما فيها من تخييل وتلقائية، وروايات وسرديات الموبايل، المنتشرة في بعض الدول مثل الولايات المتحدة وفرنسا واليابان، والتي تعتمد على الافتراض والتأليف لخلق المغامرات التشويقية والبوليسية بأسلوب بسيط جذاب، فإن أدب التحفيل ينطلق في بيئته الرقمية من الواقع المعيش والتفاصيل اليومية ليصوغ عوالم متوالدة وافتراضية في قلب العالم الحقيقي، وهو أدب قصدي مشغول يعالج موضوعات ومواقف محددة بمكر وطرافة وفكاهة وتندر وسخرية، وهي أدوات ذهنية تقتضي المعرفة إلى جانب الموهبة.

هذه المحددات لا تتعارض مع أن "التحفيل" لم يدخل بعد في دائرة الاحتراف والتخصص، فمبدعوه دائمًا من الهواة، لكن البارزين منهم على دراية بفنون الكوميكس وتطورات الرسوم المتحركة والكاريكاتير، وقد يأتي التحفيل من خلال رسوم فقط أو كلمات فقط أو بالمزج بين الصور والكتابة. وأهم ما يميز أدب التحفيل أنه فتح الباب على مصراعيه أمام الأغلبية الصامتة من العاديين لتقول كلمتها الناقمة على وضعيات أو أشخاص أو أحداث أو مواقف، وتشكل رأيًا عامًّا ضاغطًا وملموسًا ومسموعًا في دوائر التأثير وصناعة القرار.

أدب التحفيل كذلك هو نتاج تأليف جماعي متعدد، وحصيلة "حفلة" روادها بالآلاف وربما بالملايين، وعلى الرغم من أن كل عبارة "بوست" أو رسم أو كاريكاتير منسوب إلى صاحبه عبر صفحات السوشيال ميديا، فإن الحالة التي يخلقها التحفيل أو الطقس المحيط بالحدث هو إجمالي ما يتم بثه من توصيفات وردود ومناقشات وتعليقات تصب في اتجاه واحد يؤازر النص الأصلي ويدعم انتقاده وسخريته من أمر ما.

قد تدلي أحيانًا جهات ومؤسسات بدلوها في فضاء التحفيل، بدون نسبة النص إلى فرد بعينه، ومن الأمثلة على ذلك السخرية على صفحات التواصل الاجتماعي من اللاعب الأرجنتيني ميسي الذي بخسارة منتخب بلاده بطولة كوبا أميركا الأخيرة يكون قد خسر 9 بطولات دولية مع منتخب بلاده، وهو رقم سلبي قياسي، حيث أدلت "ويكيبيديا" بنص تحفيلي في هذا السياق "كل شيء في موسوعتنا يتغير، ما عدا فقرة إنجازات المنتخب بصفحة ليونيل ميسي، فهي لم تتغير منذ أكثر من عشرة أعوام!".

لم يترك المصريون، عشاق السخرية، مجالًا للتحفيل إلا وخاضوا فيه، فمن السياسة إلى الاقتصاد إلى الرياضة، ومن الصحة إلى الآثار إلى التعليم، ولم يسلم وزير ولا مسؤول ولا شخصية عامة من التحفيل الواعي الذي ينم عن رؤية ثاقبة لأحوال البلاد، ورغبة حقيقية في الإصلاح الجاد وتجاوز القرارات والسياسات الخاطئة الفاشلة.

تكفي مطالعة بعض "بوستات" التحفيل المصرية الساخرة، في "فايسبوك" و"تويتر"، من دون التعليق عليها، لاستشعار جمالياتها وخصائصها الأدبية سالفة الذكر، فهي بالفعل كاريكاتير العصر، ونسق إبداعي مبتكر فعّال. من ذلك، ما ورد بشأن نظام التعليم الجديد: "كنا أول دفعة تقابل البوكلت، وشكلنا كان بوكلتات فعلًا"، و"ذاكر تنجح.. غش تجيب مجموع".

وفي السخرية من اتحاد كرة القدم ولاعبي المنتخب المصري بعد الخروج المهين من بطولة كأس الأمم الإفريقية بالقاهرة، انتعشت غرف التحفيل عبر السوشيال ميديا، ومن ذلك "مش هنقدر نكمل البطولة عشان ورانا شغل"، و"فاروق جعفر يطالب بإسناد اتحاد الكرة للعسكر..، إنجاز تاني زي جهاز عبد العاطي كفتة"، و"نسند الكرة للجيش.. وقوات الصاعقة هي اللي تلعب الماتش الجاي".

"أدب التحفيل"، مرآة قاسية يرى فيها المصريون أنفسهم، وهم يدورون في حلقة مفرغة، وأبدًا لا تفارقهم الابتسامة وهم بين فكّي المتاهة.