شعوب وقبائل ومهاجرون...على رصيف المنارة البيروتي في أيام عيد

وضاح شرارة
الخميس   2019/06/20
من الأجواء اليومية لكورنيش المنارة (غيتي)

... ليس إلى جبران باسيل ولفِّه
في الرابع والخامس والسادس من حزيران/يونيو الجاري، أيام الثلاثاء والأربعاء والخميس، "احتفل" عشرات الآلاف على الأرجح من اللبنانيين وغير اللبنانيين المقيمين بعيد الفطر هذا العام. فأموا شرفة بيروت البحرية، أو كورنيش المنارة، إلى الشمال من المدينة اللبنانية الكبيرة وغربها، جماعات وحشوداً على نحو لم يُسبق منذ أعوام، على ما أذكر. فامتلأت الكيلومترات الثلاثة بين الزيتونة وبين الحمام العسكري- وهي المسافة التي أمشيها مشياً سريعاً رواحاً ومجيئاً، وأرى متنزهيها ومشاتها في الأثناء- بـ"محتفلين" بأيام عطلة تعقب عطلة الربيع والفصح.

ويقصد كورنيش المنارة هذا، في أواخر الأسبوع وفي العطل العامة، مشاة ومتنزهون من صنف أو بالأحرى من أصناف اجتماعية ومصادر أهلية وقوميات وأعراق (على ما كان يقال من غير خشية تهمة العرقية أو العنصرية) تقصد المنارة ومنتزهها ورصيفها البحري العريض والمطل على البحر والأفق من غير وسيط أو حاجز. والحق أن جمهور آخر الاسبوع وأيام العطل ليس جمهور "بحر" الأسبوع. فهذا يزاول في معظمه المشي السريع أو الركض المتمهل رياضة دورية أو ترويحاً، وأحياناً كثيرة علاجاً صحياً، إن لم يكن لعلة موصوفة فلحال مقيمة تنذر بالأسوأ. 

وعلى هذا، فالجمهور الأسبوعي مزيج من الطلاب والطالبات، ومن النساء والرجال الذين يعملون في المكاتب في ساعات النهار (ويُعرفون من سياراتهم المركونة إلى الأرصفة)، مكتهلين ومكتهلات يقصدون الشرفة زوجين زوجين أو حلقات أفقية، وأسر تنتهز فرصة أو مناسبة عابرة، وبعض أهل الجوار القريب. وينتشر هؤلاء، متباعدين ومبعثرين، على طول الرصيف. ويشتركون في بعض الهندام واللباس، ويغلب عليهم المشي المنفرد والمتعمد والذي تعد العدة له ويلبس له اللباس اللائق.

وفي هذا الضوء، وربما خلافاً لواقع الحال، يبدو الرصيف البحري وقفاً على صنف اجتماعي عريض يترجح حداه بين بورجوازية "الأطر" وبين أهل البلد والأحياء وصغار التجار. وليس معنى هذا أن الرصيف يستبعد، حكماً، أحداً. فإلى الجماعات التي تقدم وصفها، على سبيل التخمين الخالص، يخطر على الكورنيش، ويقتعد مقاعده ويتكئ على درابزينه ويسبح في بركه الصخرية، من شاء وأراد. ولم يَسَع مسجد عين المريسة، حيث "رأس" الشرفة من ناحية الشرق، حين احتفل فنانون بعرض منحوتات في الساحة التي يطل عليها المسجد، إلغاء تمثال مينيرفا وإخراجه من المعرض، واضطر إلى الرضا بإبعاده أمتاراً قليلة، وبقي في الساحة.
وهذا في ظرف أو إطار في مقدور هيئات تستقوي بمعايير وأحكام لا ينكرها بعض أهل الموضع، الاستعداء على "منكر". وليس ثمة نظير لهذا في جمهور الشرفة. ومن هذا الوجه فهو "هايد بارك" تام يتآخى فيه أنصار حسن نصرالله، خطيباً على منابر الأشرطة المسجلة والصادحة من السيارات، وشهود يهوه المقترحون نشراتهم وبياناتهم المنذرة بوشك الملكوت، ومروجو ماركات النيسكافيه وموزعو عينات منها، وتتقاسمه النساء من غير تحفظ... ولكن أيام العطل المتفرقة، على رغم الإباحة التي تبطل الأمر والنهي في الجمهور، تتصور في صورة نصاب يبعد جمهوراً، هو الغالب في بحر الأسبوع، ويقرب آخر. وهذا، الآخر، جلته أيام عيد الفطر الثلاثة هذه السنة في حلة... عيده. 

والكثرة أو العدد من غير قياس، هو علامة فارقة أولى. فالازدحام بلغ حد اللز والحشر، واستحال معه المشي المستقيم أو الخطو أمتاراً قليلة. ولا يكاد الماشي، في هذه الحال، يخطو خطوة إلا ويضطر للبحث لقدمه عن موطئ أو موقع تالٍ. ويُكره على هذا البحث طوال الكيلومترات الستة التي يمشيها، شأن الكاتب، في "نزهته". وما يصدق في الجزء السفلي من المشي، على مستوى الأقدام وأحذية "الباسكيت" الرياضية كلها من غير استثناء، يصدق على وجه أقوى في الجزء الوسيط (الخصر والوركين) وفي الجزء الفوقي (المنكبين والكتفين). وإذا تهددت العثرات الأقدام وحركتها، فالارتطام هو ما يتهدد حركات الأجسام الماخرة عباب المشاة "المعيدين". وقد يصيب الضيقُ الصدر وجهاز التنفس، على قول كتاب علوم الحياة المدرسي. فيتنسم الأنف جيب هواء غير مستعمل، على خلاف هواء وديع سعادة. وقد يجده وقد لا يجده. فإذا لم يجده استقل الأنف بنفسه، وقاد صاحبه بخيط غير مرئي إلى خارج الجمع المطبق على صدره وهوائه.

ويشترك أفراد الجمع اللجب والعريض في نمط لباس يكاد يكون واحداً ورسمياً، شأن أحذية "التنس شوز" (أو "الأديداس" على رغم كثرة العلامات التجارية)، وفي رسم (قص) شعر واحد. والحلقة الوسيطة التي تقوم من النمط والرسم المشتركين مقام السبب والعلة هي سن المتنزهين المعيدين وجنسهم. فمعظمهم الكاسح من الفتيان والشبان (16-22 سنة على وجه التقدير)، وقلتهم القليلة من الفتيات والشابات والأولاد. وعلى هذا، يكاد لا يتعدى اللباس "زياً" يجمع القميص اللصيق بالصدر (والظهر) والملون بالأسود غالباً والمصوَّر بغير صورة غيفارا، إلى "سروال" الجينز الضيق الذي أحيا بنطلوناً كان يعرف في مطلع ستينات القرن الماضي بـ"السيجارة"، كناية عن وصفه الفخذين والساقين والتصاقه بها على شاكلة تقميط ورق اللفافة التبغ المحصور والمحشور فيها. فأينما توجه النظر، الباحث عن صدوع محتملة في جسم الجمهور العظيم والمتصل، وقع لا محالة على مرقَّعة مترامية ومتحركة تخيط تي شرتاً إلى جينز وجينزاً إلى تي شرت، وهذين إلى حذائين جَنويين يشبهان مركبين صغيرين يشقان مياه المتوسط ويحومان حول استانبول (القسطنيطينية). وتتوج الرؤوس الحليقة الجانبين (الفودين) والخلف إلى الصفر لمة سوداء داكنة. وتنتصب هذه صخرة ملساء راسخة برتها الريح، على ما يريد مشاة البحرية (المارينز) الأميركيون التشبيه والتخييل.

والمحتفلون بالعيد على هذا النحو، واحتفالهم هو شهودهم بعضهم بعضاً بجوار البحر المديد وقبته السماوية العميقة، هم "شعوب وقبائل" وأقوام. ويتعارفون، على هذا القدر أو ذاك، من طريق حضورهم وشهودهم المشتركين، وبواسطة قيافتهم ولباسهم المعولمين، والأميركيين ابتداء. وهم لا يشهرون أنسابهم السورية والباكستانية والفلسطينية والبنغالية والسريلانكية والفيليبينية والإرترية والأثيوبية والمصرية والسودانية، واللبنانية من غير شك. ولا يجتمعون لفاً على سيماء أو لهجة، ولا ينتحون أنحاء مخصوصة ومُعْلَمة بعلامات. وعلى خلاف استعراض أقوام المحاربين وكراديسهم في مبتدأ إلياذة هوميروس الإيجي، لا يرفع المعيدون أسماء قادتهم الأسطوريين ولا يلوحون بأسلحة بارقة يعرفون بها. ولكن العين لا تخطئ في ثنايا المرقعة الفضفاضة، اشتراكاً في رسم القسمات مشفوعاً بشراكة في لون البشرة وبياض الأسنان وطول القامة المتوسط وزي النساء. ولا تخطئ الأذن، على صفحة الهمهمة المتلاطمة والمتبددة، النبرة المفرطة (في سمع لبناني) الضمِ أو الفتح، هنا، وتسكين الحروف الصماء والمتحركة في وسط الكلمات، هناك. ويوكل النظر إلى الدائرة الملونة بين الحاجبين، أو إلى الساري الكاشف عن بعض البطن، تمييز الباكستاني(ة) من الهندي(ة).

ويسود أمان قريب من الأنس الجمع الحاشد فلا تشي حركات ناسه ولا نظراتهم بالحاجة إلى "سلطان" يعلو عليهم، ويُطمئن آحادهم إلى سلامتهم وتمامهم "الفيزيائيين"، على خلاف وصف إلياس كانيتي الجمع "القومي" المتظاهر، واجتراحه من خوفه وفَرَقه عدواناً واجتياحاً "وقائيين". فالزحام البالغ حد التدافع لا يدعو، هنا، إلى غير الحذر وتجنب الصدم واليقظة المرهقة. ويتقاسم المشاة الحذر والتجنب، فلا يترفع أحد عنهما، ولا يتولاهما أحد فوق الآخر. وليست النظرات المحايدة، و"الفارغة" إلى حد بعيد، (رداً على تنكير يسود جمعاً مختلطاً وغفلاً؟) علامة على لا مبالاة عامة، على حدسي. ففي معرض محاولات تفادي الصدم أو الدفع أو المجابهة "أنفاً إلى أنف"، اضطررت إلى تخطي من يتقدمني مباشرة، فاعترضني طفل يحبو أو يترنح على قدميه، واضطرني إلى تثبيته على وقوفه قبل المضي على مشيي. فلاح على بعد خطوتين وجه امرأة ممتلئ ومبتسم، جمعت التفاتته الولد الى الرجل المستعجل والموشك على التعثر بابنها، وقالت: "بلا مواخذة منا!". قالت المرأة: "منا" وفتحت الألف بعد نون الجماعة اعتذاراً حيياً وكريماً.