مروان أبي سمرا: رسالة إلى أصدقائي السودانيين(*)

المدن - ثقافة
الجمعة   2019/05/24
إفطار مجموعة من المعتصمين أمام مقر القيادة العسكرية في الخرطوم للمطالبة بحُكم مدني (غيتي)
(*) لكي لا تنكسر اندفاعة الثورة وديناميتها

إسمحوا لي، من باب الصداقة والمحبة والحرص على ثورتكم، أن أساهم في نقاشكم حول الظرف الحالي بعدما وصلت المفاوضات مع المجاس العسكري إلى طريق مسدود. وأود بشكل خاص إن ألفت الانتباه إلى أمر أظنّه في منتهى الأهمية والخطورة ولم يؤخذ في الحسبان بالقدر الكافي منذ أسابيع، ألا وهو الحرص على عدم كسر زخم الحركة الجماهيرية الثورية واندفاعتها وديناميتها. فانكسار هذا الزخم وهذه الديناميّة يستتبعان بالضرورة فقدان الظهير الشعبي وهزيمة محققة للثورة.

فاليوم صار من الواضح للجميع أن المفاوضات وبالطريقة التي جرت بها منذ أكثر من شهر ونصف تميزت، من جهة، بضآلة شديدة في شفافيتها وفي مشاركة الجماهير في مسارها، ومن جهة أخرى، بالغرق في مستنقع المماطلة العقيمة والمقصودة دون سقف زمني للتفاوض. وهذا ما يعني أن المفاوضات هذه كانت تجازف بإضعاف الاندفاعة الشعبية والزخم الجماهيري بل وبكسرهما، لا سيما بعد خمسة أشهر منهكة من النضال والتضخيات الجسيمة والأعصاب الفردية والجمعية المشدودة. والحق أنه لم ينقذ الثورة ويؤمّن استمراريتها، على الرغم من مستنقع التفاوض هذا والذي مكّن المجلس العسكري والثورة المضادة من إعادة امتلاك زمام المبادرة – لم ينقذها سوى هذا الإصرار العجيب للشعب السوداني وعزيمته التي لم تلن ولم تنكسر.

لكن، لا يمكن الاستمرار في المجازفة هذه وعلى هذا النحو طويلاً. بل أعتقد جازما أننا قد وصلنا الآن إلى النقطة الحرجة، إذ تبدو الحركة الجماهيرية وكأنها استجمعت كل ما تزال تملكه من عزيمة وقوة وتوتر، كالقوس المشدود حتى آخره، لكي تستكمل انطلاقتها التي تعرضت للتقطع أكثر من مرة، ولتمكن من الوصول إلى الهدف. وفي هذه النقطة الحرجة، يبدو لي أن أي عودة إلى مسلسل المفاوضات والمماطلة ستكون خطوة خطيرة غير محسوبة العواقب، إذ سيكون من الصعب بعدها أن تستطيع الثورة استعادة المبادرة والزخم والاندفاعة الجماهيرية الضرورية للانتصار. وهذا ما يعني أن أي عودة إلى المفاوضات بالشروط التي كانت سائدة، لا سيما إذا ما قُدمت تنازلات، سيؤدي إلى وضع الوفد المفاوض والقوى السياسية التي يمثلها في الفراغ ومن دون ظهير جماهيري.

لذا نحن في وضع لا خيار للثورة فيه: فإما التقدم لتحقيق الانتصار، أي لتحقيق أهداف ملموسة ونتائج أفضل من تلك التي كانت قد طرحت في نهاية المفاوضات الفاشلة. وإما خطر تراجع وتقهقر وهزيمة أمام الثورة المضادة التي استعدّت وقطعت شوطا كبيراً في تنظيم صفوفها. وأقول هذا من زاوية النظر إلى دينامية الحركة الجماهيرية فحسب، وبمعزل حتى عن رأيي بمضمون ما كان مطروحاً للاتفاق وبتقييمي له.

أفهم جيداً أن الوفد المفاوض وقوى الحرية والتغيير التي يمثلها تجد نفسها أمام معضلة صعبة: فعلى ما يبدو، هناك اختلاف، إن لم يكن انقساماً، بين وجهتي نظر داخل الوفد المفاوض وداخل قوى الحرية والتغيير نفسها: وجهة نظر ترى من الأفضل التنازل من أجل الوصول إلى اتفاق مع المجلس العسكري (وتذهب بعض الأطراف حتى إلى القبول بأن تكون أغلبية مجلس السيادة ورئاسته من المجلس العسكري)، ووجهة نظر أخرى ترى ضرورة التصعيد الثوري من أجل فرض مدنية الحكم، بما في ذلك مدنية غالبية مجلس السيادة ورئاسته. والمعضلة هذه تتمثل في أن كلاً من هذين الخيارين، التنازل أو التصعيد، يحمل في طيّاته خطر انقسام معسكر قوى الحرية والتغيير.

لكن، أيّما كانت الخلافات والمخاطر، فإن المعيار الجوهري والعامل الحاسم في نهاية المطاف يجب أن يكون الرأي العام للجماهير التي ثارت وصمدت وضحت وبذلت الدماء منذ خمسة أشهر ولا تزال على العهد الذي قطعته على نفسها وأمام الشهداء. وإذا ما كان الخيار هو فقط بين شرّين، الأول أن تنقسم قوى الحرية والتغيير والأحزاب السياسية التي تشكلها، والثاني أن تنفصل عن ظهيرها الجماهيري من أجل المحافظة على وحدتها، وهو ما يؤدي إلى أن تصبح هي معزولة عن جماهير الثورة، بينما تصبح جماهير الثورة من دون قيادة وتسبح في فراغ سياسي... إذا ما كان الخيار بين هذين الشرّين، فإني أعتقد جازماً أن الشر الأول، أي انقسام قوى الحرية والتغيير والانفصال عن القوى التي تخالف المزاج والراي والإرادة الجماهيرية، هو أقلّهما مجازفة وخطورة على الثورة وعلى مستقبل السودان.

(*) مدونة كتبها الباحث مروان أبي سمرا في صفحته الفايسبوكية.