"عندما حلمَ فلّيني ببيكاسو"

سليم البيك
الأحد   2019/04/14
أحلام
ليس ذلك مجازاً، فقد حلمَ، فعلاً، فيديريكو فلّيني (١٩٢٠-١٩٩٣) ببابلو بيكاسو (١٨٨١-١٩٧٣)، بل ولذلك عددٌ هو خمسة، وقد رسمها فلّيني في "كتاب أحلامي"، ولهذا الكتاب قصته، إذ كان فلّيني في زيارة إلى طبيبه النّفسي مرّةً، وخرج من عنده بنصيحة أن يرسم أحلامه. النتيجة كانت ذلك الكتاب بما فيه من رسومات وكتابات، و-طبعاً- المزيد من أفلام فلّيني الكرنفالية السريالية.

حضور المعلّم الإسباني في أفلام ورسومات المايسترو الإيطالي (كما يُلقّب كلٌّ منهما) كان الموضوعة الأساسية للمعرض الذي أقامته السينماتيك الفرنسية في باريس بعنوان "عندما حلم فلّيني ببيكاسو"، والممتد من ٣ أبريل/ نيسان إلى ٢٨ يوليو/ تموز وأتى ضمن برنامج استعادي شمل ٢٤ فيلماً لفلّيني و٧ عنه.


قد لا يدرك مُشاهِد أفلام فلّيني مدى حضور بيكاسو من المُشاهَدة الأولى (أو العاشرة؟) دون إشارة مباشرة، وقد كُرّس المعرض لذلك، بمقاربات بصرية بين العبقريين، وكان لفلّيني إعجاب وتأثّر كبيرين ببيكاسو، وحلم به ورسمه كما ظهر في أحلامه. ففلّيني الذي كان أحد أهم علامات السينما الإيطالية في عصرها الذهبي، تميّز بأسلوب فنّي في سينماه، أقرب للكرنفالات والسيرك والحفلات، إنّما بتنويعات في المضمون تتراوح بين أفلام تكون فانتازمات كما هو 8½ و City of Women، أو سيَريّة كما هو Amarcord و Fellini Roma، أو سوداوية كما هو And the Ship Sails On و La Strada، أو احتفائية بالحياة -نوعاً ما- كما هو Fellini's Casanova و La Dolce Vita. وهذه الأفلام وغيرها، حضرت في المعرض من خلال عروض فيديو وصوت، مقتنيات وأزياء وأقنعة، صورٌ ورسومات وملصقات وصفحات من سيناريو، موازيةً لأعمال (لوحات واسكتشات) لبيكاسو كانت -أو أوحت بأنّها- أساساً تخيّلياً لها.

بدأت العلاقة تلك بعد "فضيحة" La Dolce Vita الذي نال السعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي عام ١٩٦٠، وحين كان فلّيني في أزمة وجودية، كسينمائي صار فيلمه الممنوع في بلاده (لأسباب دينية ومحافِظة)، ثقافةً بذاته، لشدّة حضوره وقوّة تأثيره، فقرر زيارة طبيب نفسي في روما، وكانت نصيحة الأخير بأن يرسم فلّيني أحلامه في دفتر عُرضت نُسخٌ من بعض صفحاته (ونسخة كاملة منه). ولم يكن المعروض من كل ذلك (الرسومات تحديداً) لغاية المقارنة بل الجدل بين الفنّانَين، خاصة وقد تشابهت موضوعاتهما: العصور القديمة، النساء، الجنسانية، مصارعة الثيران، السيرك، الرقص.

قد تكون الموضوعة الأكثر حضوراً لدى الفنّانَين هي "النّساء"، وهي لدى فلّيني تبدأ بزوجته جولييتا ماسينا، حاضرة في تسعة أفلام له قد يكون أهمها (وهي نجمتها) Nights of Cabiria و La Strada، ولا تنتهي عند أخريات صرن، في مَشاهد لهن، أيقونات سينمائية، كأنيتا إيكبيرغ في La Dolce Vita، ثم، كأثر لذلك، كانت كنجمة فيلمه السابقة، موضوعَ فيلمه The Temptation of Dr Antonio ضمن الفيلم الجماعي Boccaccio '70، مرسّخةً حالتها كأيقونة، سينمائية يحاربها المحافظون والمتدينون، هو واقع فيلم La Dolce Vita الذي أودى بفلّيني إلى طبيبه فأحلامه فرسمها، فأفلامه.



بعد النّساء كشخصيات، من الأمكنة "الأثيرة" لدى فلّيني هو بيت الدّعارة (ببطولة نسائية دائماً)، وقد صوّره بحساسية تُقابل اللوحات الإيروتيكيّة لبيكاسو، والمجانبة لصور ورسمات فلّيني في المعرض. وكما لدى بيكاسو، فقد حضرت المرأة بحالاتها كافة لدى فلّيني، إن أردنا تلخيصها -ولا يجوز ذلك- فنشير إلى فيلمه الفانتازمي City of Women. وإن كان لا بد من المرور بأفلامه، بمعظمها (أو بلوحات بيكاسو، بمعظمها)، لإدراك شدّة الحضور وتنوّعه نسائياً، أجساداً وملامح.


العديد من الموضوعات المشتركة بين الاثنين تواجدت في المعرض، ويمكن من خلالها افتراض حضور بيكاسو شكلاً ومضموناً (وأحياناً أسلوباً) في أعمال فلّيني، من خلال لاوعيه أو أحلامه المتحقّقة كرسومات أو كأفلام. من أكثر هذه الموضوعات حضوراً -إضافة إلى النساء- هي السيرك الذي قال عنه فلّيني إنّه "لو لم توجد السينما، ولو لم ألتق بروسيليني، وفي حال كان السيرك نوعاً من العروض التي تؤمّن العيش، لوددتُ أن أكون مديراً لسيرك كبير." وهذا ما صنعه فلّيني في أفلامه على كل حال، تحديداً في Juliette des esprits و La Strada و The Clowns، مديراً/مُخرجاً لأفلام أقرب أن تكون كالسيرك ومع ممثلين لطالما شبّههم بالبهلوانيين. من ناحيته، حضر السيركُ بكثرة في أعمال بيكاسو الذي عُرف بحبّه لتلك العروض، خلال إقامته في باريس (مونمارت) تحديداً.

ليست المقاربة بين سينمائي بحجم فلّيني ورسّام بحجم بيكاسو سهلة، فكلٌّ منهما "صاحب طريقة" في مجاله، وقد يكون حضور الأخير في لاوعي الأوّل، في أحلامه ورسوماته وضمناً في أفلامه، منطلقاً لتلك المقاربة، وهذا ما بدأ به المعرض المُقام في السينماتيك الفرنسية، في العاصمة، ماراً بلوحات لبيكاسو بدت لقطات من أفلام فلّيني أو اسكتشات يحضّر فلّيني لإدخالها في أفلامه، منتهياً، المعرض، بجدار واسع أزرق سنعرف أنّه السّماء، هي كذلك لقطة فلّينيّة (من فيلم Intervista)، بغيوم أشبه بأجساد نسائية بيكاسّويّة، تفتح على كلّ الاحتمالات/ التفسيرات، وتودي، أخيراً، إلى "المَخرج".